المياه خط أحمر وتحته عشرين شرطه
...............................................................
| |
دول حوض النيل | |
بقلم : غريب المنسى
.........................
كنت اتمنى أن يكون هناك جهاز وطنى منفصل تماما عن بيروقراطية الحكومة يكون شاغله الأساسى التفكير فى الأوضاع المستقبلية والتى من المحتمل أن تتحول الى مشاكل استيراتيجية تؤثر مباشرة على الأمن القومى , فكل الدول المتقدمة تعتمد على أجهزة منفصلة تساعد فى تحديد المشاكل المستقبلية وتضع الحلول المناسبة أمام القيادة السياسية الجادة حتى قبل أن تكون المشكلة قد تبلورت لمعضلة على أرض الواقع , وقد تختلف المسميات لهذه الأجهزة ولكنهم فى الغرب يسمونها مراكز أبحاث. وتكلفة انشاء مجموعة مراكز أبحاث تختص فقط بمشاكلنا المستقبلية وتعتمد على الاسلوب العلمى فى التدقيق والبحث والتحليل واستخراج النتائج وتصور الحلول لن تزيد بأى حال من الأحوال عن ثمن طائرة حربية واحدة .
وفى مجتمع يصل عدد أفراده الى حوالى 80 مليون بدون مراكز أبحاث وطنية متخصصة ومستقلة لقراءة المستقبل بطريقة علمية يكون وصف هذا المجتمع بكل موضوعية بالمجتمع البدائى الارتجالى المتواكل الذى يعتمد على الصدف والحظ فى تسيير شؤونه وهذا بالضبط ماجعلنا فى هذا الوضع المخيف والمفزع فى مواجهة مشكلة المياه مع شركاؤنا فى نهر النيل, والمياه هى مشكلة هذا القرن ليس فقط فى مصر ولكن فى أماكن متفرقة من الكرة الأرضية, ومعظم الحروب المستقبلية سوف يكون سببها المباشر هو محاولة السيطرة على منابع المياه أى أنها ستكون حروب من أجل البقاء والاستمرار , ولخطورة الأمر فكل الدول الجادة والتى لديها احتمالات مواجهة مشكلة المياه شكلت غرف عمليات استيراتيجية لمواجهة هذا الأمر الخطير . فهى مشكلة لن تحل بين ليلة وضحاها وتحتاج الى وقت وصبر وتخطيط ونظرة شاملة للظروف المحيطه , ونحن كنا قد تناولنا هذا الموضوع بشىء من التفصيل فى مجموعة مقالات ثقافة الهزيمة , ونعود اليه مرة أخرى اليوم بعدما أثمرت اجتماعات شرم الشيخ هذا الاسبوع بين دول حوض نهر النيل عن نتائج غير مطمئنة اطلاقا, فالدول المستفيدة من نهر النيل وهى : مصر، السودان، أثيوبيا، أوغندا، تنزانيا، كينيا، الكونغو الديمقراطية، رواندا، بوروندي وأريتريا تربطهم اتفاقية قديمة تعود الى عام 1929 عندما كان الانجليز هم القوة العظمى وكانوا يحتلون مصر وكانت لهم مصالح اقتصادية من وراء هذه الاتفاقية , واليوم وقد اختلفت موازين القوى فى العالم واختلفت تماما طبيعة مشاكله وتطورت استيراتجيات هذه الدول ومفهومها لأمنها القومى وهى التى كنا نتصورها دول صغيرة محدودة وأصبحت تنادى بشروط جديدة للتقسيم العادل والمنصف لحقوق المياه بين دول الحوض، وكان آخر تلك الاتفاقيات هو برتوكول موقع بين مصر والسودان عام 1959 فى عهد الرئيس عبد الناصر وكانت نتيجته السيطرة المصرية الافتراضية على مياه نهر النيل. واستند هذا البرتوكول على وصول ما يقدر بـ 84 مليار متر مكعب عند أسوان , فخصص 55.5 مليار متر مكعب أي الثلثين لمصر, و18.5 مليار متر مكعب للسودان أي الثلث.
وعلى الرغم من أن ثلاث دول فقط وهي مصر والسودان وأثيوبيا تمثل 85% من الأراضي التي تشكل الحدود المائية للحوض ومع العلم أن أثيوبيا لم توقع على أى اتفاقية بهذا الخصوص على الاطلاق لا مع مصر ولا مع باقى دول الحوض ونظراً لزيادة عدد السكان بهذه الدول مما ترتب عليه ازدياد الحاجة الى حصص أعلى من مياه هذا النهر العظيم , وتزايد السكان ليس هو العامل الوحيد لزيادة الطلب على مصادر المياه بالمنطقة كما يعتقد البعض , فمشاريع الرى الضخمة فى تلك الدول هى السبب الرئيسى لازدياد الطلب على المياه, وطبقا لما كتبه ديفيد شين السفير الأمريكى الأسبق في بوركينا فاسو وأثيوبيا وأستاذ الشئون الدولية بجامعة جورج واشنطن فهو يرى أن مشاريع الري هى أكبر تهديد لمستقبل الاستخدام الودي لمياه نهر النيل، فتلك المشاريع الكبيرة تستخدم كمية كبيرة من المياه.
ويضيف شين "إن اتفاقية 1959 ما زالت سارية, إلا أنها مقبولة فقط من قبل طرفيها السودان ومصر وهذه مشكلة كبيرة. فالدول الثمانية الأخرى لا توافق على تلك الاتفاقية . ولكن لسوء الحظ ليس هناك إطار رسمي آخر للتعامل مع هذا الخلاف السياسي. ويضيف أيضاً أن هناك نقاشات دورية ثنائية وعلى المستوى الإقليمي لمعالجة القضايا المتعلقة بالمياه، ولكنها حتى الآن لم تحقق انفراجة بشأن إعادة توزيع مياه نهر النيل، وهذا ما قد يتمخض عنه إمكانية أن يكون – أو لا يكون – هناك حروب في تلك المنطقة بسبب المياه في يوم من الأيام ". ويتوقع العديد من الخبراء والمتخصصين فى شئوون المياه أن يكون هذا القرن قرن الحروب على مصادر المياه، فرغم الحقيقة الثابتة بأن المياه تُغطي أكثر من ثلثي مساحة الكرة الأرضية (71%) إلا أن 97.5% منها مياه مالحة لا تصلح للاستخدام. وأغلب إمدادات المياه العذبة إما مخزنة في شكل جليد بالقطبين الشمالي والجنوبي أو في باطن الأرض والتي يصعب الوصول إليها، ونتيجة لذلك فإن جزءا ضئيلا من مصادر مياه كوكب الأرض والذي يُقدر بـ 1% من إجمالي المياه المتوفرة صالح للاستخدام البشري. ومع تزايد عدد السكان عالميا أضحت قضية الأمن المائي من أهم القضايا التي باتت تأتي على أولويات الأجندة الدولية.
وطبقا لهذا التصور يقفز الى الذهن سؤال هام : كيف ستواجه مصر مشكلة الأمن المائى ؟! وهى تعانى أساسا من مشكلة الأمن الغذائى بالاضافة الى مشكلة الانفجار السكانى ؟
الواقع يقول أنه لاتوجد حلول علمية واقعية تتناسب مع خطورة وحدة هذه المشاكل , وهذا يعود فى المقام الأول الى افلاس القيادة السياسية التى تعاملت مع هذه الملفات بشىء من الرعونة والاهمال والتقصير , وأكبر دليل على هذا القصور هو تعامل مصر مع مشكلة المياه بشىء من السطحية فلقد صرحت القيادة السياسية بأن مصر سوف تستثمر فى هذه الدول استثمارات ستعود بالنفع الاقتصادى على دول الحوض وهو تصريح أجوف لعدة اعتبارات منها : أن مصر ليست دولة عظمى اقتصاديا وليس لديها فوائض مالية ضخمة جاهزة للاستثمار فى أفريقيا , فمصر تعانى اقتصاديا مثلها مثل كل دول الحوض!! وأيضا تنظر مصر لهذه الدول نظرة استعلاء وهى سياسة غير حكيمة فعندما يصل الأمر الى حقوق قانونية من أجل البقاء فكل دول الحوض سواسية ولهم الحق جميعا فى الاستفادة بالتساوى من النهر فضلا عن أن هذا التصريح قد مر عليه أكثر من عام ولم نرى أى خطوات تنفيذية لهذه الاستثمارات وهذا يؤكد عدم جدية فكرة الاستثمارات من الأساس, بالاضافة للتهاون الشديد وعدم الجدية فى تقييم دور اسرائيل ووجودها واستثمارتها فى دول الحوض , فلقد عرضت اسرائيل على دول الحوض الثمانى مشاريع اقتصادية لاقامة سدود لترشيد المياه فى تلك الدول لاستصلاح أكبر مساحة من الاراضى للانتاج الزراعى الذى سوف يعود بدوره على هذه الدول بالاستفادة اقتصاديا بمراحل تفوق الاستثمارات المصرية الموعودة وهذا سوف ينقلنا الى سؤال مهم جدا : لماذا نقف عاجزين أمام محاولة اسرائيل لمحاصرتنا مائيا وهى بذلك تقوم بعمل يرقى الى مستوى اعلان الحرب الاقتصادية على مصر؟
من أكبر مظاهر القصور أن القيادة السياسية مازالت مؤمنة بأن الحروب هى حروب الميدان والمدفعية وتغمض أعينها عن الحروب الاقتصادية والتى هى أخطر الحروب وأكثرها تدميرا على الاطلاق , ولقد أعلنت اسرائيل الحرب الاقتصادية علينا والقيادة السياسية مازالت ترى أنها طالما لم تدخل علينا بفرق عسكرية من سيناء فهى دولة صديقة تربطنا بها معاهدة صداقة ولكن .. العكس هو الصحيح تماما.
وهنا من حقنا أن نتساءل : كيف ستفرض مصر شروطها لتجديد اتفاقية بخصوص المياه مع دول الحوض ؟ وهل الفريق الديبلوماسى الحالى قادرا على القيام بمفاوضات معقدة مع دول الحوض تلعب فيها اسرائيل دورا رئيسيا فى الخفاء وتقوم بتشجيع دول الحوض على المواجهة مع مصر ؟ وهل نحن قادرين على تجاوز مشاكلنا الاقتصادية الحالية لدخول حرب عسكرية من أجل المياه ؟ ومع من ؟ وما مدة هذه الحرب ؟ وكيف سيكون سيناريو هذه الحرب ؟ وكلها أسئلة منطقية فالموضوع لم يعد موضوع خلاف بسيط ولكنه خلاف جاد سيتطلب المواجهة فى لحظة معينة .
ان المياه ستصبح النفط القادم طبقا لكل التقارير المعلنة ومنها صور فضائية تحدد أماكن النقص بوضوح وستحقق شركاتها مكاسب خرافية من التجارة فيها تماما مثل شركات البترول , وهذا هو السبب المباشر الذى دفع اسرائيل للدخول الى القارة السوداء بهذه الاستثمارات ومحاولة تقنيين توزيع المياه فهى بالاضافة الى أنها ستحاول أن تحل مشكلتها الأساسية من نقص المياه وتحقيق أرباح من المشاركة فى تسعيرها, فأنها ستحاصر مصر مائيا وافريقيا وهذا يعتبر عمل من أعمال الحروب.
وأخيرا .. يمكن للعالم الاستغناء عن البترول ولكنه لايمكنه الاستغناء عن الماء ونحن هنا لابد أن نعلن استيراتيجية مياه واضحة وحتى يتفهم الناس المخاطر المتوقعة حتى يتم ترشيد الاستهلاك والتعود على طرق الاستهلاك الأمثل لمصدر مهم من مصادر الحياة كنا نتعامل معه وكأنه لن ينضب , وفى نفس الوقت نبدأ فى تأسيس مراكز علمية متخصصة يكون كل عملها هو التفكير فى المشاكل التى ستواجه الأجيال القادمة والتى سيكون أمامها تحديات جسيمة .
ثقافة الهزيمة