الصفر الكبير
...............................................................
| |
كان عصر البترودولار من أحط العصور | |
بقلم : غريب المنسى
...................
سيقف المؤرخين طويلا فى حيرة أمام تحليل بعض الظواهر فى النصف الثانى من القرن العشرين وسبب حيرة المؤرخين انهم وطبقا للمنهج العلمى فى تشريح وتصنيف الظواهر التاريخية لايوجد شىء يمكن ادراج أو نسبة هذه الظاهرة اليه فهى ظاهرة شيطانية قائمة بذاتها لايوجد تاريخيا مايؤيدها أو يضفى عليها شرعية الوجود فهى خارجة عن اطار التاريخ . فصعود الانسان للقمر والذى بدأ فى النصف الثانى من القرن العشرين وثورة المعلومات التى انتهى بها القرن ذاته كلها أمور تعتبر طبيعية اذا ما قورنت بظاهرة "رجل الأعمال العربى الدولى الجاهل المتعجرف" والذى ظهر على سطح الأحداث الدولية مسلحا بطائرته ويخته واستراحاته حول العالم !! وأصبحت أخباره وتحركاته هى مصدر اهتمام وسائل الاعلام ونشاط آلته الاعلامية التى لاتهدأ عن تلميعه للعالم وكأنه سلعة ضرورية . وقد بدأ هذه الظاهرة الحاج عدنان خاشوقوجى سمسار السلاح السعودى الشهير ومهدى التاجر سفير دولة الامارات لدى المملكة المتحدة وتلاهم الجيل الثانى بقيادة محمد الفايد المصرى وغيث فرعون السعودى أما الجيل الثالث فيضم الوليد بن طلال السعودى ومحمد العبار الاماراتى وهشام مصطفى المصرى.
هذه الظاهرة يصعب على الغرب فهمها لأنها قادمة من العالم الثالث الجائع بكل مالهذا العالم من أمراض نفسية مستعصية عن الحل وكان أهم ما يميز هذه الظاهرة وأعضائها عدة اعتبارات منها : أنهم جميعا قفزوا للمسرح الدولى بمساعدة دولة وبمجرد تخلى الدولة عنهم سقطوا جميعا لقاع الهاوية !! وأنهم جميعا ينفقون ببذخ شديد وهذا يدل على عدم ثقتهم فى المستقبل ومعرفتهم التامة بأن الظروف التى آتت بهم سوف تتغير آجلا أم عاجلا وبالتالى لابد لهم من الاستمتاع بالحاضر ولذاته فليس من طبع الليالى الأمان!! ويتفق هؤلاء أيضا فى ميولهم العدوانية تجاه بعضهم البعض وتجاه المجتمع المحلى الذى خرجوا منه فدائما تجدهم فى غيرة من بعضهم البعض ويميلون للتقشف الشديد على فقراء وطنهم . وعندما وجدوا أنفسهم فى الساحة الدولية تصرفوا بأسلوب جاهل تحت الأضواء وشوهوا سمعة العرب بل فضحونا فى كل دولة دخلوها . فهم قطيع هلامى عشوائى كل ميزاتهم أنهم كانوا موجودين فى الوقت المناسب و المكان المناسب فى حضرة الرجل المناسب.
فكلنا نتذكر قصص عدنان خاشوقوجى الأسطورية والألقاب العظيمة التى أطلقها على نفسه والأضواء التى سلطت على تحركاته الدولية. فلقد كان يفطر فى نيويورك ويتغذى فى نيس فرنسا ليعود مسرعا ليقضى العصارى مع المشتشار الألمانى ليلحق بالعشاء فى واشنطون على عجل مع الرئيس الأمريكى نيكسون ليهرع ليجامع زوجته فى المكسيك قبل أن تأوى الى فراشها !! ليكون على التليفون فى منتصف الليل مع وزير الدفاع السعودى ليخطط لبزنس جديد !! وعلى مايبدوا أنه مل من هذا الجدول المزدحم وأراد أن يكسر الرقم القياسى فى التبذير فلقد احتفل بخلع لقب ملك على نفسه فى عيد ميلاده الخمسين وأصبح "الملك عدنان الأول" فى حفل يعتبر الأول من نوعه على الاطلاق فلقد أقام حفلا فى جزيرة مربيلا فى أسبانيا لمدة أسبوع كامل للعراة وأرسل طائرات جامبو لاحضار كل ضيوفه من حول العالم وأغلبهم من المومسات والشواذ وقدم لهم الهدايا التى كانت من الماس الخالص وقد كانت الوجبات تأتى اليهم بالطائرات من عدة مطاعم حول العالم الأمر الذى أثار حفيظة الملك فهد شخصيا والذى أمر بقطع حجم أعماله مع الحكومة السعودية تدريجيا وبعد ذلك بدأ نجمه يتهاوى حتى انتهى به الأمر للنصب على الأميركان أكسبريس بمبلغ 27 مليون دولار وهروبه من الولايات المتحدة الى بريطانيا ليعيش هناك نسيا منسيا.
وبعيدا عن الضجيج والشوشرة كان عدنان فى الواقع يقوم بعمل بسيط جدا ويتقاضى عليه مليارات ولكن آلة الدعاية صورته على أنه مبعوث العناية الالهية والرجل الدولى القادر على أدارة أصعب المفاوضات ويمكن تلخيص تاريخه العملى بالكامل فى أنه هو الذى سعى لتزود مجاهدى الامام البدر بالبنادق لمقاومة الجيش المصرى فى اليمن وهو الذى سعى لتزود ايران بالسلاح بالاتفاق مع اسرائيل فى حربها مع العراق وهو الذى كان العقل المدبر لشحن اليهود الفلاشا الى اسرائيل عبر السودان . أما عدا ذلك فكل مشاريعه التجارية فشلت فشلا ذريعا . وكل السلاح الذى اشتراه للسعودية لم يستخدم فى حرب اطلاقا .
الجيل الثانى والثالث من رجال الأعمال الدوليين لايختلف كثيرا عن الجيل الأول بل قد نقول أن عدنان كان أكثرهم شهامة ورجولة . فغيث فرعون ومحمد الفايد ضربوا الرقم القياسى فى الأنانية والهروب من الواقع فغيث مثلا ورغم كل مساعدات الملك فهد له كان شديد النهم للسرقة والتحايل وقد سبب مشكلة دبلوماسية للملك فهد شخصيا . فيحكى أن الملك فهد كان فى زيارة لأسبانيا وطلب منه الملك الاسبانى شحنة من البترول لمساعدة أسبانيا فى موسم الشتاء ووافق الملك فهد على ارسال صفقة لأسبانيا بسعر متهاود جدا من السوق المفتوحة وكان ذلك فى حضور غيث فرعون الذى التف من خلف ظهر الملك فهد ليطالب الحكومة الاسبانية بعمولة مبالغ فيها الأمر الذى دعا الحكومة الاسبانية أن تتبرم للمك فهد الذى طرد غيث من حاشيته على الفور بعدما صفعه على وجهه أمام الجميع.
والفايد الذى بدأ حياته رجل عاديا فى شوارع الاسكندرية وعندما أكد ظهوره على المسرح الدولى بدأ يفكر جديا فى أن يناسب الأسرة المالكة الانجليزية فالأمر من وجهة نظره لايخرج عن عقلية " وهو ملك بريطانيا القادم ويليمز حيلاقى جد زى فين ؟؟ !! " وبالتالى فرد فعل بريطانيا تجاهه يعتبر من وجهة نظره مؤامرة خبيثة لغيرة بريطانيا من عبقريته وذكاؤه !! وطبقا لتعريفه وتحليله للأمورأصبح الأمر هو : بريطانيا ضد محمد الفايد .. طبعا الفايد لايختلف كثيراعن زملاؤه أعضاء الظاهرة وشعارهم الهروب من الواقع.
أما الجيل الثالث فهم يلعبون بالمليارات ولكنهم أشد جهلا وغباء وبأسا من سابقيهم فالوليد بن طلال يملك ربع الشركات الأمريكية على الورق وهشام مصطفى يملك ربع مصر على الارض ومحمد العبار واجهة شيك ومتعلمة لملوك الخليج وكان يمكن لهم مجتمعون لو أنهم صالحين او حسنى النية أن يرفعوا كثيرا من المعاناة عن شباب الوطن وأن يكونوا قدوة مثالية لهذا الجيل . ففى الغرب تقسم القيادات على التوالى :القيادة السياسية يليها القيادة الفكرية ويليها القيادة التجارية. فرجال الأعمال فى الغرب قيادة لايستهان بها فهم قادرون على خلق فرص العمل وتأمين المستقبل لغيرهم ولكن عندنا يختلف الأمر كثيرا فهم ليسوا بقادرين على تحمل مسؤلية الريادة والنهوض بمجتماعاتهم وهذا قدرنا فهذا الجيل من رجال الاعمال الدوليين همه الشاغل الفشخرة والتعلق بأهداب هيفاء وسوزان.
كان عصر البترودولار من أحط العصور لأنه جلب معه فلسفات جديدة غيرت من المفاهيم السائدة فى عالمنا البسيط . فالدين والسياسة والفن والابداع فى العالم العربى أصبح رهينة لفرسان هذا الزمن الردىء وعليه فقد تحولت الحياة من حياة صعبة الى حياة مستحيلة وعندما يتحكم قلة فى ذوق ومشاعر وخيارات المجموع لابد أن نصل الى هذه النهاية التقليدية والمعروفة مسبقا .. وهى الصفر الكبير الذى نعانى من نتائجه سواء اعترفنا أو هربنا من الواقع .
انها حقا ظاهرة خارج اطارها التاريخى .. ومعضلة على المؤرخين .
مصرنا ©