مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 هانى عازر : مهندس محطة قطارات برلين‏

المهندس هانى عازر


حاورته فى فى برلين نشوى الحوفى

فى برلين كان موعدنا على مدى يومين هناك، حيث هرمه الذى بناه فأبهر الأوروبيين والعالم أجمع، مصرى حتى النخاع، نحيل الجسد ممتلئ المكانة، واثق الخطوة يمشى وتاج رأسه التواضع، لا ينقطع رنين جواله، حيث يتابع مشروعه الجديد لحظة بلحظة. لم يمنح الألمان إبداعه وحسب، لكنه نقل لهم روحه الباسمة المستبشرة دوماً.. يتنقل فى أرجاء محطة برلين مسلماً على هذا ومرحباً بذاك.. يردد على مسامعك وهو يسير: «لا شىء مستحيلا، ولا شىء لا يمكن القيام به، بكثير من الصبر وكثير من الإرادة والعمل يصبح الحلم واقعاً»، لذا يشبهونه فى ألمانيا بأبى الهول ويؤمّنون على كل ما يعلنه ويقولون: «هكذا قال هانى عازر».

وللحق فهو يستحق عن جدارة، ويكفيه تنفيذ مشروع تطوير محطات سكك حديد برلين بعد أن فشل المهندسون الألمان فى تنفيذها، ومواجهة مشاكل التربة التى واجهوها على مدى 7 سنوات حتى تسلم هو قيادة المشروع عام 2001، فصنع المعجزات فوق الأرض وتحتها، يكفى أن نعلم أنه حول مجرى نهر «سبراى» الذى يمر فى قلب برلين 70 متراً وحفر الأنفاق تحته ثم أعاد النهر لمجراه الأول دون أن تتأثر حركة النهر. ليس هذا فحسب بل إنه قام ببناء برج إدارى فى المحطة بطول 70 متراً بشكل رأسى ثم قلبه أفقيا ليمر بالعرض فوق خط القطارات الرابط بين شرق وغرب ألمانيا.

ولهذا كله هو أسطورة فى ألمانيا، يتحدثون عنها ويثقون بها حتى لو قال ما يخالف رأى المهندسين الألمان، والسبب أنه يعرف ما يفعل كما يقولون عنه، ويهتم بأدق التفاصيل التى تمتلئ بها المحطة، بدءاً من بلاطات مميزة ترشد المكفوفين، وأخرى لصيانة المحطة، انتهاءً بالزجاج المولد للطاقة الشمسية لإنارة المحطة. ورغم كل هذا لايزال على مصريته بسيطاً كما علمه أبوه أن يكون، تسمعه يقول: «عندما أجد أخبارى تملأ الدنيا هنا أسرح فى أبى وأتساءل: هل يشعر بما حققته؟».

ويخرج من أشجانه ضاحكاً ويعود بك لأرض محطة برلين شارحاً لك ما فعله بها وأذهل العالم، يقطع حديثنا وصول وزير النقل الألمانى «بيتر رام زرا» للمشاركة فى تسلم جائزة «محطة العام» التى فازت بها محطة برلين كأفضل محطة على مستوى العالم، يلمح المهندس هانى، فيسلم عليه بحرارة ويسأله ضاحكاً: «أجئت لتتسلم الجائزة بدلاً منى؟» فيجيبه وهو يقدمنى للوزير الألمانى: «كلا أنا معى صحفية من مصر جاءت لتحاورنى».

وهكذا استمر حوار المصرى اليوم مع المهندس هانى عازر، عبقرى الأنفاق والتشييد فى ألمانيا، التى وصلها عام 1974 خائفاً من المجهول، يعانى البرد والوحدة وصعوبة اللغة، واستمرت رحلته فيها 36 سنة متنقلاً من تحد إلى آخر. واليوم يحكى لنا الكثير من تفاصيل حياته ونجاحاته، فإلى نص الجزء الأول من الحوار..

■ درست فى كلية الهندسة بجامعة عين شمس قسم مدنى.. ولكن لماذا تخصصت فى الأنفاق بالذات؟

- عندما جئت لألمانيا عام 1974 والتحقت بالدراسة فى جامعة «بوخوم» أدركت أن هناك الكثير من علوم الهندسة لم أحصلها، فدرست هندسة الصرف الصحى والرى والكبارى والأنفاق، ولكننى وقعت فى غرام الأنفاق لأن فيها تحديا أكبر، والخبراء المتخصصون فى هذا المجال يعرفون ذلك لأن صعوبات البناء فوق سطح الأرض محددة ومعروفة سلفاً، لكن تزداد الصعوبة تحت الأرض، حيث الظلام والمفاجآت لأنك لا تعرف ماذا سيواجهك وهنا مكمن التحدى.

■ صرت أسطورة فى عالم تشييد الأنفاق فى أوروبا فهل تذكر أول نفق نفذته ولفت الأنظار إليك؟

- نعم كان ذلك تقريبا فى عام 1979 فى منطقة دورتموند، حيث كنت حديث التخرج فى جامعة بوخوم، ولتفوقى أخذتنى شركة «بولنسكى» وكانت لدينا مهمة حفر نفق يمر فيه مترو «دورتموند»، وكانت مهمة صعبة والسبب أن الأرض هناك أرض مناجم فحم، بمعنى أنه تكثر بها الانهيارات لكونها تربة غير مستقرة. كانت مشكلة وتوصلت إلى حلها عن طريق عمل نفق من حديد بنفس فكرة عمل آلة الأكورديون الموسيقية.. مصمم بشكل يعتمد على المرونة التى تراعى اهتزاز الأرض خلال مرور القطارات بها وكانت أول مرة تستخدم فيها تلك التقنية فى ألمانيا فلفتت إلىّ الأنظار، بعدها شاركت فى تنفيذ العديد من المشاريع المهمة فى برلين منها مطار برلين.

■ ومتى بدأت العمل فى مشروع تطوير سكك حديد برلين؟

- سمعت الحكومة الألمانية بما قمت به من أعمال فاشترتنى من الشركة التى كنت أعمل بها وكلفتنى فى عام 1994 بتشييد أنفاق قطارات السكك الحديدية التى كان العمل قد بدأ فيها منذ ذلك العام. وكان يشرف على مشروع تطوير المحطة قبلى أكثر من مهندس ألمانى ولكنهم فشلوا فى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه سواء من حيث التصميم أو التنفيذ أو تكاليف المشروع التى تزايدت بمرور الوقت.

وفى مايو عام 2001 استدعانى رئيس سكك حديد ألمانيا وطلب منى تولى مسؤولية الانتهاء من المحطة وأن يكون التسليم بعد 5 سنوات كنت فيها مسؤولا عن 750 مهندسا و 1500 عامل، ومفوضاً بالتعامل مع 35 شركة تورد المواد للمحطة. وقبل استضافة ألمانيا بطولة كأس العالم لكرة القدم، وبالتحديد يوم 26 مايو 2006 تم افتتاح أكبر وأحدث محطة قطارات فى أوروبا والعالم بتكلفة 4.5 مليار يورو. وتم اختيار موقعها فى المنطقة الفاصلة بين شطرى ألمانيا الغربية والشرقية قبل الوحدة عام 1990 لنُرِى العالم معنى الوحدة وأثرها.

■ ماذا عن المشكلات التى واجهت عملية تشييد المحطة؟

-كانت كثيرة، أهمها المياه الجوفية التى كادت تغرق برلين أثناء الحفر فى الأنفاق، وفشل المهندسون الألمان فى إيجاد حل لها وكان من الممكن أن تعوق المشروع كله، ولكننى وجدت الحل فى تجميد التربة وبالتالى تجميد المياه الجوفية فيها لدرجة – 36 تحت الصفر، مع الحفاظ على عدم تجميد المياه القريبة من سطح التربة وإلا ماتت النباتات.

فزودنا التربة بمجسات لقياس درجة حرارة المياه لمعرفة الوضع وتحقيق الهدفين: تجميد المياه الجوفية ورى النباتات. كانت لدى أيضاً مشكلة حفر الأنفاق تحت مياه نهر «سبراى» دون تعطيل حركة الملاحة النهرية، فقررت تعديل مجرى النهر لمسافة 70 متراً لتسير فيه الملاحة بشكل مؤقت، وقمت بعدها بحفر الأنفاق المطلوبة وتغطيتها بالخرسانة ثم بطبقة سميكة من الحديد، وتعجب الألمان من استخدامى الحديد فوق الخرسانة ورأى البعض أن فى هذا زيادة فى تكلفة البناء ولكننى شرحت لهم وجهة نظرى، التى تتلخص فى أننى حميت الخرسانة بالحديد حتى لا يتسبب إلقاء السفن الهلب فى شرخ أو تهديد للخرسانة المبطنة للأنفاق على المدى الطويل. وبعدها أعدت النهر لمجراه الطبيعى، فقالوا عنى إننى أمتلك مفاتيح كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة.

■ وما قصة ذلك المبنى الذى بنيته رأسياً بطول 70متراً ثم قلبته ليستقر فوق الكوبرى بشكل أفقى؟

- هذا مبنى عبارة عن 5 طوابق على جانبى الكوبرى الذى يمر عليه خط قطارات يربط بين شرق وغرب ألمانيا وبالتالى أوروبا، ويصل بين طرفى المبنى جزء طوله 70 متراً به مكاتب إدارية، وكان بناؤه بالشكل التقليدى يعنى تعطل حركة مرور القطارات. فقررت بناءه رأسيا من جزءين ثم قلبه بشكل أفقى بمفصلات بحيث تكون سرعة قلبه 3 سم فى الدقيقة واستغرق قلبه 48 ساعة لأننا كنا حريصين على نزوله بسلام. ولا أخفيك أننى كنت مع العمل لحظة بلحظة فى تلك العملية من شدة خوفى وشعورى بالمخاطرة، لأن أى خطأ معناه هدم جزء كامل من المحطة وقد يكون به ضحايا من البشر وهو ما يعنى انتهاء حياتى. لكن الحمد لله كان الله معى.


■ محطة قطارات برلين تضم 5 طوابق، كيف استوعبت كل تلك التفاصيل فى التصميم؟

- أن تجيدى عملك وتحبيه معناه الاهتمام بكل التفاصيل التى تجعل منه منظومة مكتملة. ولذا راعينا فى المحطة كل شىء بدءاً من بلاطات بيضاء ذات بروزات تشعر بها قدمك لإرشاد المكفوفين أثناء سيرهم فى المحطة ويعنى الوصول إليها وجود تقاطع، مقبض درابزين السلم الحجرى به حروف وأرقام بارزة لو لمسها الكفيف لعلم أين يجد قطاره وعلى أى رصيف. وكذلك فعلنا فى أزرار المصاعد وجعلناها على هيئة بانوراما ليتمتع الزائر بمشاهدة المحطة.

■ كم تبلغ مساحة محطة برلين؟

- 250 ألف متر مربع، وهى محطة مركزية بين محطات القطارات فى أوروبا تلتقى بها قطارات الشمال والجنوب مع قطارات الشرق والغرب، ويزورها يوميا نحو 700 ألف راكب.

■ وكيف يتم تأمين محطة بهذه المساحة الكبيرة؟

- راعينا الجانب الأمنى من خلال وحدة كاميرات للمراقبة تتنوع أشكالها ومهامها، فهناك كاميرات 360 درجة تتابع المحطة على مدار 24 ساعة ومن كل الزوايا عبر متخصصين لهذا الغرض فقط، وهناك كاميرات أحادية الجانب لإطلاق صافرات الإنذار فى حالة انبعاث أى دخان يمر أمامها حتى ولو دخان سيجارة، لأن التدخين ممنوع داخل المحطة، ويتم التصدى لأى سلوك ممنوع أو إرهابى بسرعة عبر وحدة شرطة متخصصة داخل المحطة. حتى الناحية الجمالية تمت مراعاتها من خلال تصميم رائع للمحطة ونوع الإضاءة بها ولون الطلاء المتماشى مع ألوان القطارات والأرضيات التى تم استيرادها من الصين.

■ هل يوجد فى طوابق المحطة الخمسة خطوط قطارات؟

- لا، فى الطابق الأسفل، وتسير به القطارات المتجهة من الشمال للجنوب وتصل لروسيا وإيطاليا، وخطوط الطابق الأعلى وتسير بها قطارات من الشرق للغرب وتصل بين هولندا وبولندا. وفى المنتصف الأدوار التى تقودك إلى مترو الأنفاق داخل برلين والشوارع وموقف انتظار السيارات والميناء. هذا غير المحال التجارية التى يبلغ عددها نحو 70 محلاً تتنوع بين المطاعم المختلفة التى تقدم أطعمة من شتى بقاع العالم ومحال الهدايا والكتب وتأجير السيارات والملابس، بحيث لا يحتاج الراكب للخروج لبرلين العاصمة للشراء وفقد الوقت.. يمكنه فى المحطة أن يجد كل شىء حتى الدواء.

■ كيف ومتى تتم صيانة المحطة وتنظيفها؟

- المحطة مفتوحة على مدار 24 ساعة وتتواصل حركة مرور القطارات بها على مدار اليوم ما عدا قطارات شديدة السرعة التى تعمل حتى الواحدة صباحاً وتبدأ عملها فى الرابعة صباحاً، وخلال تلك الـ 3 ساعات يتم تنظيف المحطة وصيانة أى جزء بها. وراعينا فى تصميم المحطة أن يتم ذلك بهدوء، ودون أى إضرار بالشكل الجمالى لها. هناك على سبيل المثال بلاطات مربعة مثبتة بمسامير فى حال لو احتجنا تغيير سلك كهرباء أو ماسورة مياه فلا نقوم بهدم الأرض ولكن نفك البلاطات فى الجزء المعنى ونغير ما نشاء ثم يعود الحال لسابق عهده، فالهدم وتشويه الشكل العام ممنوعان، مسموح بالبناء فقط.

■ لاحظنا فى المحطة أعمدة تمتد من الأرض إلى الطابق الأعلى.. ما هى تلك الأعمدة؟

- تلك الأعمدة حديدية بداخلها خرسانة وتشبه نبات اللوتس، تحمل الكوبرى الذى تسير عليه قطارات الشرق والغرب ووزنه 8000 طن. وراعيت فى تصميمها إمكانية صيانتها من خلال إحاطتها بدوائر وضعنا تحتها حديداً يتم رفعه مثل كوريك السيارة فى حالة حدوث أى هبوط أرضى.

■ كيف تتم حركة سير القطارات؟

- هناك أرصفة لقطارات فائقة السرعة وأخرى لقطارات متوسطة السرعة، ولكل منها قضبان ومسارات لا تتعارض مع الأخرى ولدينا 14 شريط قطار تتجه لكل أوروبا. وتلاحظين فى بعض الأرصفة انحناءات يفرضها شكل المحطة وطول القطار الذى قد يصل إلى 300 متر، ولذا زودنا كل رصيف بشاشات كمبيوتر توضح لرئيس المحطة كل أبواب القطار والعربات وحركة الركاب صعوداً وهبوطاً، فلا يعطى شارة انطلاق القطار إلا بعد ملاحظة جيدة لهذه الشاشات، كما أن تسيير القطارات فى المحطة يتم عبر شبكة كمبيوتر لأن أى تأخير فى موعد أى قطار يؤثر على ألمانيا كلها. ولذا فدقة مواعيد القطارات هنا 99 % وتتحرك فى مواعيد بالدقيقة والثانية. حتى قيادة القطار تتم بالكمبيوتر ويتم ضبط سرعة القطار ويسير بعدها بمفرده، وعلى السائق منح غرفة التحكم المركزية تقريراً عن الرحلة بصوته كل 10 دقائق حتى لا ينام، وإذا تعرض السائق لأى أزمة قلبية فإن غرفة التحكم المركزية تستطيع وقف القطار فوراً.. ليس هذا فحسب فلو لاحظت الغرفة أن القطار يسير بسرعة أكبر من المقررة له تقلل السرعة لمعدلها.

■ ألم يحدث يوما هنا حادث قطار نتيجة مرور بقرة أو جاموسة أو أى حيوان أمام القطار؟

- لم يحدث، لأن مسارات القطارات محددة ومعروفة ومغلقة سواء فوق سطح الأرض أو من خلال الأنفاق، ولو حدث ما تتكلمين عنه يقف القطار فوراً ويسارع للمكان مدير الأمن العام للتحقيق فى الحادث ومعرفة المتسبب فى موت الحيوان ومحاسبته!

■ عرفنا أنه تم استخدام 9117 لوحاً زجاجياً لتغطية سقف محطة برلين وأرصفة القطارات بها. ولكن لماذا توجد فى بعض الألواح نقاط مستديرة؟

- تلك خلايا ضوئية تم وضعها فى بعض ألواح الزجاج المعرض لضوء الشمس، وهو يستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية التى تستخدم فى إنارة المحطة ليلاً، وتعطينا 750 كيلو وات فى الساعة، وقد صممها المهندس المصرى العبقرى إبراهيم سمك. أما بقية ألواح الزجاج التى تغطى المحطة فهى كما تلاحظين مثبتة فى إطارات من المعدن ويحملها قضيبان من الحديد على شكل حرف X بالإنجليزية خوفاً من تمدد أطر الحديد واتساعها على الزجاج فيسقط مكسوراً أو يصيب أحداً، وهناك بعض ألواح الزجاج التى تفتح «أتوماتيك» فى حال تصاعد أى دخان لتنقية الهواء داخل المحطة.

■ ولماذا لا نرى الزلط فى الأرض بين قضبان الحديد وهناك حديد كأنه سجادة أسفل القضبان؟

- هذا الحديد عبارة عن مادة خام تشبه الأسمنت تمت معالجتها بطريقة ومواد خاصة لتمتص أصوات القطارات العالية وتمنحها درجة أعلى من الثبات، ولم نعد نستخدم الزلط بين القضبان فى المحطات الآن.

■ لماذا لا توجد مكاتب لبيع التذاكر للجمهور؟

- لأنه يمكنك شراء التذاكر عبر ماكينات آلية تحددين فيها نوع التذكرة وفئتها، ومدتها الزمنية إذا كانت أسبوعاً أو شهراً أو سنة أو يوماً أو مجرد رحلة واحدة، وتدفعين قيمتها وتحصلين عليها، ولو واجه أى مسافر مشكلة هناك الموظفون المنتشرون داخل المحطة فى مكاتب مخصصة.

■ خبرنى بماذا تشعر الآن وأنت تسير معى فى محطة برلين؟

- أشعر بالتعب الذى مر علىّ وكم الضغط الذى عانيته للانتهاء منها فى الوقت المحدد الذى أعلنته الحكومة الألمانية وهو يوم 26 مايو عام 2006 قبل استضافة ألمانيا بطولة كأس العالم لكرة القدم وقتها، انظرى خارج بوابة أوروبا، هناك تجدين مبانى من خلف الزجاج، تلك هى مبانى مكتب المستشارة الألمانية والبوندستاج «البرلمان الألمانى» ومعظم مكاتب الحكومة، وهى كما ترين فى مواجهة المحطة، وعندما كان العمل يتوقف هنا لحل أى مشكلة أو لتعديل شىء فى مساره، كانت المستشارة «أنجيلا ميركل» تحدث رئيسى المسؤول عن سكك حديد ألمانيا كلها لتعرف سبب التوقف، فيكلمنى فى الهاتف ويعرف ويبلغها. كنت أعمل تحت ضغط الوقت وضغط أننى مراقب وضغط المشاكل الطارئة التى تبرز هنا فجأة فى موقع العمل، وضغط الخوف من حدوث أى خطأ قد يضيع سمعتى. كل تلك الأمور تمر على بالى عندما أحضر هنا لمحطة برلين، ولكنها فى النهاية صفحة طويت وانتهت ووضعت عليها علامة «صح». تفكيرى الآن منصب على مشروع شتوتجارت لأنه هو المستقبل وبرلين هى الماضى، يجب علينا ألا نقف كثيرا أمام ما تم إنجازه مهما كان حجمه لأنه بات ملكاً للتاريخ، علينا دوما النظر للجديد. وكثيرا ما أضرب مثلاً للعاملين معى بالقول إن سائق القطار لا يمتلك مرايا جانبية ينظر فيها على الخلف، وذلك لأن انطلاقته دوماً للأمام وعلينا أن نكون مثله.

■ رائع ولكن ألم يكن ينتابك الشعور بالفخر وأنت حديث الصحف والمجلات والمسؤولين الألمان؟

- كلا، صدقينى كان شعورى مختلفاً، شعوراً بالخوف والخطر لأن أى خطأ معناه ضياع ما سبق أن بنيته على مدار تاريخى هنا فى ألمانيا. وبخاصة أنهم ظلوا يعملون فى هذا المشروع منذ نحو عام 1994 وصادفهم الكثير من المشكلات التى لم يستطيعوا حلها وتأخروا فى التنفيذ فقررت الحكومة الألمانية عام 2001 شرائى من الشركة التى أعمل بها لأنهم سمعوا عنى، وأوكلت لى سرعة انجاز مهمة تطوير محطة برلين وأربع محطات أخرى معها لا تقل عن روعتها شيئا، خلال 5 سنوات فقط وتسليم المشروع وافتتاحه يوم 26 مايو 2006. وكان هذا تحدياً صعباً ولذا كنت أشعر بالخطر والمغامرة كل يوم، خاصة مع ما صادفنى من مشكلات فى التنفيذ، كنت أتنفس الصعداء كلما تجاوزت إحداها.






المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تصافح المهندس هانى وتكرمه


■ كان افتتاح محطة سكك حديد برلين حدثاً أسطورياً فى ألمانيا تناقلته وكالات الأنباء، ولكن ماذا عنك أنت؟ وكيف تم تكريمك؟

- نعم كان يوماً تاريخياً بمعنى الكلمة، وكان الألمان مبهورين بحجم الإنجاز وسرعة الانتهاء منه فى الوقت المحدد، وأذكر كلمات حاكم ألمانيا يومها فى الحفل، حين قال فى كلمته إنه ليس لديه المال الذى يوازى ما قام به العبقرى المصرى حفيد بناة الأهرام ولكنه سيقدم لى ما لا يمكن شراؤه بالمال، وأرفع ما لديه، وأعلن يومها - رغم مخالفة ذلك للتقاليد الألمانية - عن منحى فى الأول من أكتوبر، الذى يوافق ذكرى الاحتفال بوضع الدستور الألمانى عام 1950، وسام الدولة وهو أرفع وسام فى ألمانيا ويسلمه رئيس الدولة لمن يمنح لهم. كما منحونى يومها وسام الجمهورية وهو أيضاً من أرفع الأوسمة الألمانية وأهمها، ولا يمنح إلا لعدد معين من الأحياء، وإذا تقرر حصول شخص آخر عليه ونفدت الأوسمة الموجودة فعليه الانتظار لحين وفاة أحد الحاصلين عليه. وكرمتنى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وأشادت بى، وقالت فى كلمتها التى ألقتها يومها إنها سمعت عنى الكثير وقرأت عنى أكثر منى.

■ لا تقل لى إنك يومها لم تشعر بالفخر والعظمة؟

- أكيد كان هناك إحساس بالسعادة والرضا، ولكن، وبطريقة تلقائية، وجدتنى أنظر للسماء وأتحدث لوالدى وأقول له: «كنت تتصور يا بابا إن هانى ابنك يعمل كل ده؟» كان الشعور المسيطر علىّ هو افتقادى وجود والدى بجوارى فى تلك اللحظة التى كان هو السبب فيها منذ سنوات بعيدة، بعطائه وصبره وتفانيه وتعاليمه التى ربانا عليها.

■ كيف ترى نفسك اليوم: مصرياً بعقل ألمانى، أم ألمانياً بروح مصرية؟

- بل مصرى ابن مصرى وحفيد مصريين عقلاً وروحاً. منحتنى ألمانيا علمها والفرصة للعيش والنجاح بها، ولكننى ولدت وتربيت وعشت فى مصر وأكلت وشربت وتعلمت فى مدارسها وجامعاتها، وأغلى ذكرياتى لا تزال هناك بأماكنها وأشخاصها.


أذكر الجيران والزملاء وأتساءل: أين هم الآن؟، وأرانى أُنزل «السَبت الخوص» من شرفة منزلنا كى تضع لى بائعة الخبز الجالسة أمام العمارة الخبز الأسمر الذى أحتفظ بمذاقه فى فمى، وجلستنا مع أبى نأكل الجبن والبطيخ فى أيام الصيف الحارة، ووقت قيلولته الذى كان أمراً مقدساً يفيق منه على فنجان قهوة مع أمى. كل هذا والكثير لا يزال فى نفسى أتذكره بين الحين والآخر، أنا أحيا على منجم ذكرياتى فى مصر.

■ لماذا لم تعد إذن بعد كل هذا العمر لمصر؟

- كثيرا ما أفكر أن أتقاعد وأقضى بقية حياتى فى مصر وسط إخوتى وأصدقائى القدامى وأفتتح مشروعاً هندسياً هناك، ولكن من عاش حياة الغربة مثلى، يدرك أنه بات مقسما بين مكانين لا يعلم لأيهما ينتمى أكثر، فعندما أزور مصر وأرى ازدحامها وسلوكيات الفوضى من بعض الناس فى الطريق والحياة أتساءل: كيف يمكننى التكيف الآن مع ذلك، وأعود لألمانيا.

وعندما يتواصل بى المقام هنا يشدنى الحنين لرائحة الشيشة والشاى المغلى على مقاهى الحسين وتمشية وسط البلد وأنت تتأبط ذراع صديق، أضيفى لهذا أننى مهما فعلت فى ألمانيا، ومهما كان حجم إنجازاتى سأظل مصريا عربيا أسمر اللون بالنسبة لهم، ولذلك.. المعادلة صعبة.

■ معادلة صعبة أم أنك أدمنت النجاح والتنقل من تحد لآخر؟

- هذه طبيعتى طيلة عمرى التى غرسها أبى بداخلى، وكل ما حققناه أنا وإخوتى فى حياتنا العملية السبب الأساسى فيه هو ذلك الرجل الطيب المحب للحياة والعلم عمك حلمى عازر رحمه الله.

نعم، العلم كان قيمة لا يعادلها أى شىء فى حياة أبى وكان طموحه لنا بلا حدود، رغم بساطة حياتنا كأسرة تنتمى للطبقة الوسطى. ومازال معى هو وكلماته ومواقفه إلى يومنا هذا، فمثلاً عندما تواجهنى مشكلة فى العمل لا أجد لها حلاً رغم مواصلة التفكير فى مخرج لها، أتركها وأخرج للشرفة وأشرب كوب شاى وأدندن بلحن لعبدالحليم حافظ أو أفكر فى أى شىء آخر، وللعجب يقتحم الحل خلوتى، فأعود مسرعا للعمل.

وهذه الطريقة هو من علمها لى، فعندما كانت تواجهنى مسألة حساب أو هندسة يستعصى على حلها، كان يأتى بجوارى ويقول لى قم واجلس بعض الوقت فى البلكونة وسوف تتوصل للحل. وللعجب فتلك هى طريقة الألمان فى التفكير التى يطلقون عليها «تجديد الفكر» بمعنى تغيير المناخ المحيط بك لكى تستطيع مواصلة العمل والإبداع به.

هل تعلمين شيئاً، عندما أرى أخبارى تملأ الصحف والبرامج التليفزيونية هنا، سواء عن مشروع محطة برلين أو مشروع شتوتجارت الجديد، أسرح فى أبى وأتساءل: هل أنا ذلك الشخص الذى يتحدثون عنه؟ وهل يشعر أبى الموظف البسيط بما حققته هنا من نجاح كان يحلم به؟

■ ألمح فى حديثك علاقة صداقة قوية كانت تربطك بأبيك؟

- ليس مع أبى وحده ولكن مع أمى وإخوتى أيضاً، لقد كنت صديقاً للجميع ومحل أسرارهم وثقتهم، كانوا يعلمون أنهم إذا حكوا لى شيئاً فلن يعرفه أحد على الإطلاق مهما حدث، وكانوا يتوقعون لى أن أكون شيئا فى المستقبل.

أما أبى فكانت هناك علاقة خاصة جداً بينى وبينه رغم أن ترتيبى بين إخوتى الخامس، أى أننى لست الولد الأول فى الأسرة، ولكنه كان يدللنى بتعقل. كان شديد الطيبة، ولا أذكر أنه كان على خصومة مع أحد طيلة حياته، كما لا أذكر أنه عاقبنى بالضرب يوما ما، وكان عقابه لى يقتصر على حرمانى من النزول للشارع ولعب كرة القدم التى كنت أعشقها.

■ يسود الاعتقاد أن المتفوقين دراسياً ليس لهم فى اللعب؟

- على العكس، لقد كنت محترف لعب كرة قدم ومشجعاً قوياً للأهلى وكثيراً ما تشاركت وأصحابى فى صناعة الكرة الشراب من القماش والكلة، وكانت تلك اللعبة تعنى بالنسبة لأسرتى شيئاً واحدا هو إهلاك الأحذية بسرعة. ورغم ذلك لم يؤنبنى أبى وأمى يوماً على ذلك، بل على العكس كان أبى يذهب معى لشراء حذاء جديد بدلاً من إصلاح القديم، رغم أن ذلك كان يمثل إرهاقاً مادياً على ميزانية الأسرة. كما أحببت لعبة الشطرنج وشجعنى عليها مدرس التربية الرياضية فى المدرسة الابتدائى ولكننى للأسف لا أتذكر اسمه.

■ ما زلت تذكر الكثير من تفاصيل الحياة فى مصر رغم سنوات الابتعاد عنها؟

- بالطبع لقد ولدت فى طنطا، حيث كان يعمل أبى فى السكة الحديد عام 1949، وبعدها بسنوات انتقلنا للعيش فى القاهرة فى حى كوبرى القبة بشارع مصر والسودان، والتحقت بمدرسة أحمد ماهر الابتدائية، وأكملت الدراسة فى مدرسة النقراشى الثانوية بنين بكوبرى القبة، وبعد حصولى على الثانوية العامة عام 1967 التحقت بكلية الهندسة جامعة عين شمس قسم مدنى.

■ عبقرى الأنفاق والتشييد فى ألمانيا هل حصل على مجموع كبير فى الثانوية العامة؟

- ليس بمقاييس تلك الأيام التى يتجاوز فيها المجموع حاجز 100%، ولكننى حصلت بصفتى أحد المتفوقين على مجموع 78.5%، وكنت سعيداً به للغاية لأنه فى أيامنا كان شىء تمام جداً. وأتذكر واقعة حدثت يوم نتيجة الثانوية العامة لا أنساها حتى الآن، وأضحك عليها كلما مرت على بالى، فقد ذهبت لمدرسة النقراشى لرؤية النتيجة وشاهدت مجموعى وعدت للمنزل فى المترو وأنا فى قمة السعادة، ولكن أثناء عودتى التقيت بزميلى فى الفصل وصديقى هانى عبدالحكم جمال الدين، وكنا الوحيدين فى الفصل اللذين يحملان اسم هانى، سلمت عليه وسألته عن مجموعه فأخبرنى أنه 78.5%، فقلت له إننى لم أر اسمه فى كشوف الناجحين وأن هذا مجموعى، فقال لى الكلام نفسه وأنه لم ير اسمى فى كشوف الناجحين وأن هذا المجموع يخصه.

وقفنا وقد تبدلت فرحتنا بالخوف والحزن ولم نجد بداً من العودة للمدرسة التى وصلناها وقد أغلقت أبوابها ورفض البواب السماح لنا بالدخول للتأكد من النتيجة، ولكن مع إلحاحنا عليه ومعرفته تفوقنا، ذهب وأحضر لنا الكشوف خارج المدرسة فوجدنا أن كلينا قد نجح بذات المجموع، فتنفسنا الصعداء وعدنا لنخبر أسرنا.

ودخل هانى عبدالحكم كلية طب جامعة عين شمس، ودخلت أنا كلية هندسة جامعة عين شمس.

■ بمناسبة الحديث عن العلمى والأدبى. ما تعليقك على التحاق نحو 75% من طلاب الثانوية العامة فى مصر الآن بالقسم الأدبى هروباً من العلوم وقلة المجموع؟

- أتعجب من ذلك لأنه على أيامنا كنا نفخر بانتمائنا للقسم العلمى، البالطو الأبيض لطلبة الطب، والمسطرة حرف T لطلبة هندسة كانت جزءاً من تباهينا بدراستنا ونحن صغار، وأعتقد أن هناك مشكلة ما فى التعليم فى مصر يجب إعادة النظر فى طريقة حلها وبسرعة لنخرج كماً وكيفاً.

هنا فى ألمانيا على سبيل المثال الطلاب فى الثانوية العامة لديهم حالة من عدم وضوح الرؤية، وبالتالى لا يعرفون ماذا سيفعلون بعد حصولهم على تلك الشهادة ويفكر أغلبهم فى العمل بدلاً من الالتحاق بالجامعة، وهناك تخصصات فى العمل مثل المهندسين نطلبهم من الخارج لهذا السبب، والدولة تحاول حل تلك المشكلة بإرسال الناجحين والمتخصصين للتحدث لطلاب المدارس وتوضيح الرؤية لهم.

■ حصلت على الثانوية العامة والتحقت بالجامعة فى عام النكسة.. كيف كان الحال وقتها لكم كطلبة؟

- كان الطلبة جزءاً من الحياة السياسية وقتها، وأذكر أننا كنا نتناقش ونتكلم فى حال البلد الذى سيطر عليه الحزن، وبعد دخولى الجامعة كنت فى اتحاد الطلبة بالجامعة، وشاركت فى العديد من مظاهرات الطلبة التى كانت تطالب بمنح الجامعة المزيد من الحريات والصلاحيات، لم يكن لدى جيلنا الإحساس بأنه قادر على التغيير وحسب، بل بضرورة مشاركتنا فيه أيضاً ودورنا فى تحقيقه كحال الكثير من الشباب فى كل عصر وأوان.

■ لم تمارس السياسة بعد التخرج فى الجامعة؟

- لقد طلقت السياسة بعد التخرج لأسباب كثيرة أهمها حرب أكتوبر التى أعادت الكرامة لمصر والعرب، كما أن مجيئى لألمانيا علمنى أن لعبة السياسة كثيراً ما يندس فيها أصحاب المصالح التى لا يشترط أن تكون عامة من أجل الوطن.

■ نعود لمرحلة الجامعة كيف كنتم ترسمون المستقبل بعد التخرج أنت وزملاؤك؟

- لم يكن السفر بين أولوياتنا وكانت طموحاتنا تدور حول تكوين شركة صغيرة بعد التخرج ثم تكبر، وأحيانا نستشعر ضآلة موقفنا فنتمنى العمل فى شركة المقاولون العرب أو شركة حسن علام أو شركة الدكتور أحمد محرم أستاذ الإنشاءات.

■ وكيف تغير تفكيرك وقررت السفر لألمانيا عقب التخرج؟

- جاء هذا مصادفة بعد سفر أكثر من زميل للخارج لتجربة الحياة هناك، منهم من عاد وحكى عن تجربته بشكل مبهر، ومنهم من أكمل حياته فى البلد الذى سافر له، فقلت: لماذا لا أجرب أنا الآخر السفر. فى البداية فكرت بالسفر لإنجلترا لأننى أجيد الإنجليزية، ولكن عدلت رأيى وقررت السفر لألمانيا بعد أن سبقنى لها أحد أصدقائى وحكى لى عن تطور دراسة الهندسة المدنية بها.

فجئت والتحقت بالدراسة فى جامعة «الروهر بوخوم» فى «دورتموند» وتعلمت فيها الكثير وتخرجت عام 1978 بتفوق، وكان من عادة الشركات الكبرى فى ألمانيا وقتها تعيين المتفوقين فيها فاختارتنى شركة «بولنسكى سولنا» للعمل بها فى بناء الكبارى والأنفاق، فاكتسبت خبرة وأثبت كفاءة فاستمرت رحلة الحياة هنا.

 


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية