| | | | لحرامي".. المجني عليه!
| حلوى رخيصة، من السكر والماء والليمون وماء الورد |
بقلم : محمد صلاح ......................
حظيت ببعض التدليل بمدرستي الإبتدائية، أحد مظاهر هذا التدليل أن أظفر بالجلوس بمقدمة الفصل بجوار النافذة؛ حيث أتحين الفرصة لأسبح في الفضاء الأخضر المنبسط الفسيح، كحجر أم حنون براح. وذات يوم، وبينما يحل التثاؤب والكسل محل التصايح والشغب، إيذانا بقرب غروب شمس يوم دراسي ، أسرح بنظري خارج النافذة، لمحته قادما، انبثق وكأن الأرض انشقت عنه، بدا من بعيد كشبح أسود يخرج من ضباب، وكلما اقترب أسفر وبان ..رجل أربعيني، طويل القامة أبنوسي البشرة، يلبس جلبابا داكنا رثا عليه معطف لا يخلو من رقع، يحمل على ساعده الأيسر "سبتا" من الخوص، يقبل مندفعا الي الأمام، شاخص البصر، وكأنه يمضي لمعاتبة أحدا جرح روحه جرحا غائرا!.
الحرامي الحنون
يدق الجرس، ينطلق الأولاد نحوه فرحين، وأنا في إثرهم، يتصايحون: الحرامي جه، الحرامي جه !يستقبلهم فرحا هاشا، يداعبهم ويمسح على رؤوسهم بحنان، مناديا :خد مصاصة، حلي واكسب ..وان ماكسبتش اياك تزعل ..بكره هتكسب، بكره هتكسب!
يقبع في "سبته الخوص" المعلق بساعده الأيسر، لفافات ورقية من حلوى رخيصة، صنعها من السكر والماء والليمون وماء الورد، ودس في واحدة من كل عشر منها، قرشا على سبيل الجائزة لمن يحالفه الحظ ويكسب، وكأنه يصعب عليه أن يأخذ قروش الصغار، فيتحايل لردها لهم ما استطاع!. أقترب منه وجلا مندهشا متفحصا.. ينتعل حذاءا ممزقا، يفضح قدمين شققهما سعي دؤوب لاهث، شعره الناعم الغزيرالمغبر يتراقص بنشاط على جبهته العريضة الكادحة، يشاغل عينيه الحمراويين المبللتين ببقايا دموع حارة قديمة، يبدو وكأن كل شيئ تخلى عنه، حتى أسنانه تركت فمه خاويا على عروشه!.
يلمحني شاردا فيقبل نحوي مخترقا حصار أحبابه الصغار، يضع كفه على رأسي، فأشعر بغليان قلبه، يبادرني: اسمك ايه ياشاطر؟! محمد .. أنا أيضا اسمي، محمد . محمد؟!.. فلم ينادونك ب "الحرامي"؟! حكاية طويلة ..تعال خد مصاصة، يمكن تكسب.. أتراجع متوجسا، خوف ينتابني وحيرة تلفني.. أنى لهذا الرقيق الحنون، الذي يبدو في تراقصه ومرحه وسط أحبابه الأطفال كعصفور جريح، أنى له أن يكون "حرامي"؟.. الهي ، أهذا يسرق؟! ولماذ يسرق؟! وماذا سرق؟! ومن؟! ومتى؟!.. قلبي الصغير الناصع الذي لايكذبني أبدا يقول لي أنه ضحية، تعرض لظلم فادح، ربما من عزيز لديه.. أعرف ذلك من بحة صوته الباكي، من عينيه الحمراوين الدامعتين، من لهاثه المتصاعد من قلب محموم، من بنيانه الذي يبدو وكأنه تهدم بفعل طاغية أحمق غشوم دهس شبابه الزاهر، من انحناءة خفيفة في أعلى ظهره، ربما من أثر ضربة غادرة لم يتوقعها من الأيام، من نظرته الشاخصة المعاتبة المسمرة على طيف قاتله الذي لايفارقه!.
تنفد الحلوى وينفض الصغار مودعين "الحرامي"؛ من كسب منهم ومن لم يكسب، وأبقى أنا يغمرني التأثر ويدفعني الفضول لأتبعه في عودته، أرقبه يمشي مندفعا إلى الأمام، شاخص البصر، لايلوي على شيء، حتى ينعطف إلى مطعم صغير، يلتقط رغيفين، يضع عليهما أقراصا من الفلافل الساخنة ورشة ملح، يستند إلى حائط ظليل، يزدرد طعامه بفتور، كمريض فى نقاهة، يلتقط "قلة" إلى جواره، يصب ماؤها في جوفه كمن يطفئ حريقا. ينهض متجها إلى صاحب المطعم، يعطيه قروشا، يظل يفركها ويتحسسها ويقبض عليها كمودع لحبيب، ففيها دفء وحنان وبراءة أكف أحبابه الصغار!.
يستأنف مسيره ، فيلحظني: روح ياشاطر، روح يا شاطر علشان أمك متقلقش عليك" أريد أن أعرف إلي أين تذهب.. أنا لا أذهب إلى مكان، أمشي بانتظار الصباح لأعود إلى حضن أحبابي الصغار.
سر اللقب
تمر الأيام؛ ويبوح لي "الحرامي" بحكايته.. "كنت طفلا جميلا مثلك، لأم بارعة الجمال، سابغة الحنان، وأب بادي الفتوة والشباب بالغ الثراء، تغمسني أمي فى حنانها ويغمرني أبي بتدليله، وبينما أتقلب بين الحنان والتدليل إذا بعاصفة هوجاء عمياء بلا قلب تخطف أمي على غرة في مرض ألم بها فجأة، فذابت وتلاشت، ولقيت رب كريم، لأصبح بجناح مكسور وقلب خائف مذعور.
لم يمض وقت طويل حتي تزوج أبي من امرأة فاتنة لعوب، من أول نظرة نارية سددتها لي من عينيها المتوحشتين فهمت أنني غير مرغوب في، وأعددت نفسي للطوفان.
طوفان؟! أي طوفان؟! وأبي معي ولن يتخلى عني أبدا!.. وسرعان ما أسفرت المرأة المحتلة، التي أحتلت قلب أبي وفراش أمي ، عن عبوديتها للذهب وشغفها بالمال ولهفتها على الرجال، المزيد من الرجال!، ولكي تنعم بحريتها، وتنصب خيمة عبثها الماجن، كان عليها أن تكسر قيدا يقيدها، بل يخنقها، هو أنا!.
ظلت تحفر الأخاديد بيني وبين أبي، الذي كان حبيبي، حتي إذا أتسع الأخدود وتعمق سكبت فيه وقود خستها وأشعلت نار غلها الفاجر، وألقتني فيه بلا رحمة، لتتهمني بسرقة مصاغها!.
في البداية لم أعبأ لفريتها، لرهاني على قلب أبي المحب لضناه، لكن سرعان ماهان علي ظلمها وتواضع، أمام صفع أبي الغادر المتلاحق، أبي الذي ألقى بي كنفاية على قارعة الطريق.. لم أرد عليه إلا بنظرة عتاب، مازلت أنظرها لطيفه الماثل أمامي، وسأظل أسددها له حتي يحكم الله بيننا. همت على وجهي، لم يعد يعنيني من الدنيا شيئ بعد غياب أمي وسقوط أبي، كلما سألني أحدهم: من أنت؟ أقول: الحرامي، لأبقي نار الغضب مستعرة في قلبي ليوم الحساب، وعدت إلى الأطفال، حيث لم أظفر من دنياي إلا بطفولتي، أعيشها معهم كل نهار، ثم أمضي في طريقي لأواصل معاتبة طيف أبي .. أبي الذي كان حبيبي ..
ترى يا محمد، من الشريف، ومن .. الحرامي؟!"
06/11/2014
مصرنا ©
| | | |
| | | | |
|
|