دروس الكرامة من بائعة الجرجير!
|
الجرجير |
بقلم محمد صلاح
...................
في غدونا ورواحنا، الشمس وأنا، نمرعليها.. في ركن من الرصيف، تنحني متكورة وسط كومة عشوائية من الخضرة، فجل وجرجير، شبت وبقدونس.. الخ تلك البضاعة البسيطة الرخيصة.اسمها "صبيرة"، حتى اسمها مفعم بمرارة الصبر! لم يبقى لها من أنوثة الأنثى إلا صفتها الممهورة في شهادة الميلاد، شاحبة هزيلة عجفاء، غائرة العينين، مجهدة، غضة الأهاب، عليها ثياب رثة كالحة كأسمال خلقة!.
منهمكة هي في فرز وتنظيف وترتيب بضاعتها الفقيرة البسيطة، بالكاد من آن لآخر تزدرد لقمة جافة غمستها بجبن قديم، بيد مرتعشة تلتقطها كعصفور قلق، تبدو وكأنها تستعد لمناكفة يوم جديد من صلف الزبائن وشحهم، وهرسهم لخضرتها وضنهم عليها بقروش هزيلة – مثلها - لاتغني ولاتسمن!.
دروس في الرضا
أقبل عليها باسما بحنان، صباح الخير يا أمي..
يسعد صباحك يابيه
كيف حالك؟!
الحمد لله، رضا، وأقل من كده كمان!!
(تقولها وعيناها تلمع بتسليم وقناعة، بتعفف وشرف ، بصبر وجلد .. لو وزعت على أهل الأرض لصافحتهم الملائكة )!
اعملي حسابي في شوية خضرة زي كل يوم، وأنا راجع آخدهم
.. من عينيا،
مش عايزة حاجة؟!
.. أعوزك طيب، الله يسترك يابيه، تتمتم، الحمد لله، نحمده.
أمضي خجلا أتساءل، ألم يسع تلك المسكينة أن تشحذ فتكفي نفسها مؤونة (المرمطة ) على الرصيف، تتقاذفها أرجل الحر والبرد، الغادين والرائحين؟!
كيف تركت الأيام لتوصلها الي تلك الحال البائسة ، لتجردها من أوراق شجرتها ورقة ورقة، لتهدم بنيان شبابها ، أنوثتها وربما جمالها لبنة لبنة ، كيف ؟!
ترى ماهي النقطة الحرجة التي تدفع الإنسان ليسلم يديه لقيد الفقر والفاقة .. أصوله ، بداياته ، ثقافته ، أمكانياته ، حظه ، قدره ، خيبة أمله ، أختياره .. ؟! لم تتجشم صبيرة تلك المعاناة الرهيبة ؟ أمن أجل كسرة الخبز المغموسة في الجبن القديم ؟! أم لثياب لن تستطيع شرائها ، أم لزوج خرج ولم يعد ، لولد لم ترزقه أصلا ،لراحة لم تحوزها يوما .. من أجل ماذا تشقين هذا الشقاء، يا " صبيرة "؟!
ينقضي نهاري ، لأعود مع شمس ماقبل الغروب ، نتفقد " صبيرة "، التي لم تعد تعرف سوانا، لأجدها مختفية خلف ظل ثقيل، لكائن طرير، يلبس بذلة رخيصة داكنة، ويضع نظارات سوداء على وجه صخري
.. بجنيه جرجير ياولية
.. عينيا يابيه
ايه ده ؟ تلاتة ؟ دا أربعة فى كل حتة .. بطلي افترا
.. وماله يابيه ، ومن غير فلوس
.. يرمي لها بيد جنيها ورقيا ممزقا ، وباليد الأخرى ( ينتش ) الجرجير ،
يقلبه وينكشه ويلقي بما لايروقه بين يديها ، لتستبدله في صمت واحتساب!
في الوقت التي تجلس فيه إحداهن القرفصاء، تهجم على الخضرة بمقدمة نافرة، وتزحم الطريق بمؤخرة ظافرة!
.. أخلصي يا ولية، عايزة أمشي، دول بكام؟!
( وقد جمعت بكفيها المنتفختين خلاصة مالدى صبيرة من بضاعة ، فقط لم يبقى الا أن تبتلع صبيرة نفسها)!
.. اللي تجبيه ياست الكل
.. خدي واحمدي ربنا ، وترمي لها بجنيها وربع الجنيه، وتمضي غير عابئة، رضيت المسكينة أم سخطت!
أقترب هامسا: .. سلام عليكم ، ازيك يا أمي
.. نحمده يابيه نحمده ، طلبك أهه
.. بخجل وتردد أدس في كفها مبلغا ، لاعلاقة له بالخضرة وثمنها
تنتفض لترد مازاد على حقها ، تتمتم مطرقة في خشوع
.. يابني، الله يحنن عليا وعليك، ماكنتش قعدت القعدة دي، هو أنا حيلتي الا كرامتي!
يا الهي ، كرامتها، فعلت بها الأيام والليالي الأفاعيل، جردتها من كل شيء، ولم تقدر على كرامتها!!
تمضي الأيام ، ولا أيأس من التحايل لمساعدتها بأي شكل، أمر عليها في أحدى المرات فأجدها شاحبة على شحوبها ، ذابلة على ذبولها، ترد تحية الصباح متعبة منهكة ، تنظر الي بعينين مغرورقتين بالدموع ، نظرة أمتنان وامل !
خير يا أمي، مالك، أأنتي بخير ؟!
.. الحمد لله أنا دائما بخير، ربنا يخليك لأولادك يابيه، أتوكل على الله .. ترجع بالسلامة تلاقي طلبك!
أعود لآخذ وجبتي من الخضرة ، التي تعرف أنني ربما لاأحتاجها !
وأجرب تلك المرة أن أدس بكفها الضعيف مبلغا من المال، لأفاجا بها ترمقني بنظرة لم أر مثلها في حياتي، في جزء من الثانية ، جمعت صبيرة في نظرة عينيها صراعا رهيبا بين التعفف والأضطرار، بين طول الصبر وألم الأنكسار، بين وحدة الكرامة الفردية وونس الإخوة الأنسانية!
قبضت بيدها على النقود وكأنها جمر! أطرقت وبعين دامعة تنهدت ، تردد الحمد لله .. الحمد لله
لاحقتني قائلة: .. بشرط ، دول سلف يابيه!
بت مؤرق الجفن مما دفعها للتنازل وقبول ما تعتبره ( سلفة ) حتى كان النهار، مررت من أمامها متعجلا لتأخري عن عملي، لألمح الي جوارها .. كيسا مملوءا بالأدوية!!