| | | | على شاطئ البوسفور
| ميناء أمينونو |
بقلم: مروة شاكر ...................
وسط الزحام وإيقاع الحياة السريع تجدهن جالسات في صمت، للوهلة الأولى تظن أنهن يعشن في عالم آخر غير عالمنا ولكنك إذا اقتربت منهن وتحدثت إليهن ستشعر بمدى قربك منهن، هذا المشهد تراه يوميا في محطة أمينونو بجوار المسجد القديم هناك وسط "اسطنبول" أكبر مدن تركيا، إنهن سيدات يمتهن بيع طعام الطيور أقمن متاجرهن هناك منذ عشرات السنين، والتي تتكون من منضدة خشبية صغيرة يعرضن عليها بضاعتهن، وكرسي خشبي يجلسن عليه طيلة النهار، حتى ينتهين من تأدية عملهن.
تجدهن جالسات مرتديات تنانيرهن القطنية وأغطية الرأس الملونة، وكأنهن جزءا من لوحة فنية بدونهن لا تكتمل هذه اللوحة، يستقبلن اليوم الجديد الذي يطرق أبوابهن بابتسامة تملأ وجوههن تنم عن التفاؤل والرضا الذي يملأ صدورهن، ومع أنهن لا يثرن اهتمام أحد، ويبدين وكأنهن في معزل عن دوامة الحياة المسرعة التي تسير بهن في دربها، إلا أنك عندما تعرف قصص حياتهن ستعلم جيدا أنهن يمثلن أهمية كبرى في ركب الحياة.
الحياة في.. ميدان أمينونو
حينما تنظر إليهن فإنه من الطبيعي أن يتبادر إلى ذهنك سؤال عن السبب الذي دفع بهؤلاء النسوة المسنات إلى العمل في هذه المهنة التي لا تدر عليهن الكثير من الربح والتي تكون شاقة أو صعبة بعض الشئ على سيدات في مثل أعمارهن، ولكنك وبمجرد النظر في وجوههن ستعرف جيدا السبب.. إنه الفقر والسعي من أجل كسب قوت اليوم.
قصصهن مختلفة لكنهن يشتركن جميعا – إلى جانب الفقر وحاجتهن للمال- في ابتسامتهن التي لا تفارق شفاههن أبداً ووجوههن الضاحكة وكأنهن سعيدات؛ على الرغم مما يحملنه من الآلام في طيات ذكرياتهن، وكان هذا هو الدافع لمحاولة القرب منهن للحديث عن حياتهن.
"نورتون إسر" تجلس في مواجهة حائط المسجد القديم بمحطة أمينونو لبيع طعام الطيور، يملأ وجهها ابتسامة هادئة، خلال 60 عاما - هو عمرها الحالي- قضت منهن 50 عاما في بيع طعام الطيور.. بعد تردد طويل وبعد أن أبعدت كل من كان يقف بجانبها قررت أن تحكي عن حياتها قائلة أن هذه أسرار خاصة لا يجب أن يسمعها أو يعرفها أحد.
ثم أضافت وهي تشير لفتاة صغيرة في العاشرة من عمرها تقريبا كانت تقف بجانبها أنها عندما أتت إلى ميدان أمينونو لبيع طعام الطيور كانت طفلة في مثل عمر هذه الفتاة، وكان هذا الميدان وهؤلاء الناس يمثلون العالم بالنسبة لها، فكانت تذهب إلى الميدان ومعها حقيبة طعام الطيور لبيعها كل يوم.
بعد ذلك جاءت إلى نفس الميدان وهي شابة وكان ذلك بعد زواجها، وبالطبع ما دفعها لذلك هو الفقر والاحتياج إلى المال لمساعدة زوجها، وعند سؤالها عما إذا كانت هناك ذكريات جميلة في هذا المكان، قالت أن مجرد الجلوس بجانب الجامع القديم ومشاهدة البحر من أمامك هو في حد ذاته متعة.
إنها سعيدة طوال الوقت عند سماعها لصوت المصلين وهم يقيمون الصلاة، كما أنها باستطاعتها أيضا الصلاة في داخل المسجد في أي وقت تريده وهذا ما يجعلها تشعر بسعادة أكثر، ونبهت إسر أن ما يضفي على أوقاتهم البهجة والسعادة هي وجميع زميلاتها – بائعات طعام الطيور - في ميدان أمينونو أنهن يجلسن ويتضاحكن ويتبادلن الحديث فيما بينهن في وقت الراحة ومشاركة الطعام مؤكدة أن هذه هي أسعد لحظات تقضيها برفقة صديقاتها ليتناسين بها صعاب الحياة.
الصحة تاج على رؤوس الأصحاء
القصة الأخرى لـ"كاليسا كهرمان"، معظم حديثها باللغة الكردية وقليل بالتركية، وهو الأمر الذي كان من أول الصعاب التي واجهتها عند قدومها إلى اسطنبول للعمل.
الظروف الصعبة في حياتها هي إيضاً التي جاءت بها إلى هذا الميدان، فهذه السيدة التي بلغت من العمر 70 عاما جاءت من ديار بكر إلى اسطنبول منذ 15 عاما مع زوجها وزوجتيه الأخريتين، حيث أن زوجها كان يعمل ببيع طعام الطيور في نفس المكان وقامت هي بالعمل بدلا منه بعد وفاته، فتأتي كل يوم في تمام السابعة لمزاولة عملها ثم تذهب إلى منزلها في تمام الخامسة مساءا، وفي بعض الأوقات تقوم إحدى زوجات زوجها الأخريات بأخذ مكانها والبيع بدلا منها إذا تعذر عليها الحضور.
وفي نهاية حديثها أشارت إلى أن ما يجعلها سعيدة وراضية عن حياتها رغم ما واجهته من صعاب؛ أنها عاشت طوال عمرها بصحة جيدة مما جعلها تشعر بالامتنان والرضا طيلة سنوات حياتها.
"عائشة آتش" تبدو جميلة ومرهفة الحس، من الواضح أنها كانت على قدر كبير من الجمال في صغرها، على وجهها ترتسم ابتسامة يتخللها الحياء، تنتظر مجيء الناس لها كل يوم ليشتروا منها أوعية طعام الطيور.
عائشة التي تبلغ اليوم من العمر 65 عاما، ورثت الفقر من عائلتها أبا عن جد، لكنها عاشت فترة من حياتها مستقرة وفي راحة بعد أن تزوجت من رجل كان يعمل عاملا بمصنع للجلود، لكن سرعان ما انقلبت موازين الحياة التي أصبحت أكثر صعوبة ومشقة على عائشة بعد وفاة زوجها، لذا اضطرت إلى النزول للعمل وبدأت مسيرتها في بيع علف الطيور.
أما الصعوبات التي تواجهها عائشة كل يوم فتقابلها بالرضا، "فهذه هي الحياة وليس بأيدينا شيء نفعله سوى مواجهة القدر بكل صبر وإيمان، فالسعادة الحقيقية تكمن في أن يظل المرء يتمتع بصحته طوال حياته".. هكذا تصف حالها مشيرة إلى أنها ربما تحصل في نهاية يومها على بعض الخبز الجاف أو ماعون من الحساء.
أربعة قطط .. وإرث من الفقر
"أمينة أينا يوروك" سيدة تبلغ من العمر 65 عاما، تعودت وضع كرسيها في شارع الاستقلال باسطنبول وبيع طعام الطيور منذ 10 أعوام، قالت أن البيع في موسم الصيف يكون جيدا لكن في الشتاء يكون الوضع أقل نشاطا، مضيفة إلى أن حبها للطيور هو ما دفعها للعمل بهذه المهنة.
أمينة هي الأخرى حياتها كانت صعبة ومليئة بالعقبات؛ فميراثها الوحيد كان الفقر الذي ورثته أبا عن جداً، لكن هذا لا يمنع كونها امرأة سعيدة تشعر بالرضا والفرح الذي يتجلى أحيانا من ابتسامة عينيها الزرقاوين التي تعودت أن تنظر من خلالهما إلى الحياة نظرة مليئة بالتفاؤل والأمل.
تقول أنه على الرغم من أن هناك الكثيرين ممن تركوا في نفسها آثار لكثير من الآلام إلا أنها تنسى هذا، ولا تريد أن تتذكر إلا لحظات السعادة التي تقضيها برفقة طيورها وقططها الأربعة التي تربيهم ليصرفوا عنها وحدتها، وأسعد أوقاتها بجانب مسجد الآغا بشارع الاستقلال؛ الذي تسرع له مهرولة في نهاية كل يوم بعد انتهاء عملها لأداء الصلاة.
وفي النهاية تقول أنه على الإنسان أن يتعلم كيف يكون ممتنا وسعيدا وشاعرا بالرضا والتفاؤل وألا تفارقه الابتسامة وذلك لأن الحياة لا تستحق أن نشعر ولو للحظات بالحسرة.
06/11/2014
مصرنا ©
| | | |
| | | | |
|
|