و لا كل الرجال..
...............................................................
| |
تحية كاريوكا | |
بقلم: أحمد مطر
..................
أقف وسط موالد الأنظمة العربيّة وأحزاب المعارضة، فتمتلئ أذناي بالصمت على رغم الضجة العارمة، ويتطاير قلبي شظايا على وقع ضمادات الوعود الشافية بالإصلاح، أو أدوية الشعارات المؤسية بالتغيير.
وحين أبحث في ذاكرتي عمّا يواسيني، لا تلوح لي، وسط ركام تجارب القيادات التاريخية، إلا صورة لامرأة جميلة كانت وحدها مؤهلة لقيادة الجماهير إلى غدها المشرق، من دون ادعاء أو احتيال أو كذب، وشجاعة لم تعرفها قلوب معظم الأفاقين الذين يمتطون ظهور الناس ليل نهار.
مواصفات القائد الأمين الصادق، الجريء النزيه، المتمتع بكاريزما القيادة كانت متوافرة لدى تلك المرأة وكلما قرأت سيرتها تنهدت ملتاعاً: لو أن الراحلة كانت قد أنشأت حزباً معارضاً، وافتتحت له فروعاً في جميع أقطار العرب، أو لو أن أحداً من «خناشير» الأحزاب عندنا، توافر له شيء من صدقها وإخلاصها ونكرانها لذاتها وحبها للناس، كل الناس، وعدم فجورها في العداء والاختلاف، لكان لنا الآن ما يدفع عنّا عذاب الخيبات المتلاحقة في أنظمة طواحين الهواء، وعناء المقالب المتكررة من أحزاب «حسب الله»!
تلك المرأة كانت تعمل في الفن، وفي تاريخ حياة الفنانين كله لم يثأر لكرامتهم أو يحفظ حقوقهم أحد غيرها. فهي قد وقفت في مواجهة نقيبهم «المعين» من السلطة، وهو ضابط كبير وكاتب كبير أيضاً، وطالبت بإسقاطه وانتخاب غيره، وأضربت عن الطعام حتى شارفت على الموت، ولم تقطع إضرابها، على رغم رجاء رئيس الجمهورية وتوسلات رئيس الوزراء حتى أُسقط النقيب المعين.
وعلى رغم أن الفنانين انتخبوها بدلاً منه، فإنها تنازلت عن المنصب لمن رأته أكفأ منها وأكثر قدرة على أداء واجباته.
تلك المرأة لم تتورع في العهد الملكي، عن صفع أحد أمراء الأسرة المالكة أمام الناس لأنه حاول جذبها من يدها من دون إرادتها.
وتلك المرأة خاطرت بحياتها، ذات يوم، حين خبأت ضابطاً (أصبح رئيساً في ما بعد) كان متهماً بقتل وزير خطير، يعدّ رجل بريطانيا آنذاك.
وفي الزمن الجمهوري، كانت تلك المرأة الوحيدة من دون جميع الباشوات وقادة الأحزاب وقادة الثقافة والفكر، التي وقفت لإعلان رأيها في الحكم الجديد بصراحة جارحة، قائلة إن أسقط ملك واحد واتى بملوك كثيرين... واحتملت أن تدخل السجن ثمناً لرأيها وتلك المرأة كانت تنقل بنفسها شحنات الأسلحة الى الفدائيين الذين يحاربون الإنكليز، من دون أن يطرف لها جفن.
تلك المرأة كانت تنفق مكسبها كله على المحتاجين، وإذا أخذت الأيام على أعدى أعدائها، كانت أسبق الناس الى الوقوف بجانبه ومساعدته ومواساته في محنته.
وتلك المرأة ظلت حتى بعدما تقدّم بها العمر ولازمتها الأمراض، لا تترك مظاهرة وطنية الا شاركت فيها، ولا اعتصاماً إلا كانت أول من ينتظم فيه.
وتلك المرأة كانت رائدة في إقامة «موائد الرحمن» للفقراء والمشردين الذين لا يجدون ما يفطرون به في شهر رمضان المبارك، والذين ينساهم تماماً «أحباء الشعب»، ولا يتذكرهم أبداً المناضلون لأجل الكادحين.
لعل القارئ قد أدرك عن أي امرأة أتكلم...
نعم، إنها تحية كاريوكا. وإنني لست أمزح على الإطلاق، بل يأخذني الجد الى حافة التمني بأن أرى حزباً عربياً واحداً يقوده مخلوق صادق وجريء وأمين وطيب القلب كتلك المرأة.
ميزة تلك المرأة أنها بدأت «راقصة» وانتهت «حاجة»... فيما يبدأ معظم المناضلين لدينا «حجاجاً» وينتهون «راقصين».
وكفاها شرفاً، من دونهم جميعاً، أن أحداً مهما افترى، لا يستطيع أن يثبت أبداً أنها كانت «ترقص على الحبال»!