الشحرورة.. الزمن عندما يلعب لعبته الشهيرة
...............................................................
|
الشحرورة.. الزمن عندما يلعب لعبته الشهيرة |
بقلم د.أيمن محمد الجندى
ربما تندهش حين تقرأ هذا المقال.. صباح!، تكتب عن صباح!!، العجوز المتصابية، التي تبدل أزواجها كما تبدل أحذيتها، وتعترف بخيانتهم علنا في وسائل الإعلام.. ليتك كتبت عن قروية تساعد زوجها في أعمال الحقل، عن صبر الزوجات وحيل الأمهات لتدبير الميزانية حتى آخر الشهر، عن الفتيات الحالمات بحظهن العادل في الحياة، عن العوانس اللاتي يكابدن مرارة القهر، عن الأرامل والمطلقات.
لكن صباح!!.. تكتب عن صباح.
ألعاب الحياة الموسيقية
نعم أكتب لأني أؤمن أنه في داخل كل إنسان شيء يستحق الكتابة عنه، رابط مشترك بين أبناء الفناء.. من يدري!، لعل صباح تمثلنا جميعاً في ركض الإنسان الأبدي خلف سراب الشباب، أو وسيلة تستخدمها الأقدار لإبراز معنى، أو ضحية لمأساة أكبر منها.. أسهل شيء أن تدين وترفض، وأصعب شيء أن تفهم وترحم، من المهم لمبادئنا أن نعلن الرفض، والأهم لإنسانيتنا أن نتقن العطف.
نعم صباح!!، أكتب عن صباح
.
لا ريب أنني كنت صغيرا جدا حينما شاهدتها لأول مرة، بيضاء كالثلج، شقراء كالعسل، مشرقة كالربيع.. تقع في الحب كياسمينة يطوحها النسيم، وفي تأرجح الياسمين تكمن تفاصيل الفيلم، مع أبطال في وسامة كمال الشناوي، أو رجولة رشدي أباظة أو رقة عبد الحليم.
صباح: مرآتها أحداق الرجال، وفي كل مكان تذهب إليه تسمع شهقات النساء، تشاهد شحوبهن لشحرورة جاءت من أرز لبنان، وجبال لبنان، ودلال لبنان، بجسد ممشوق، ولطف مطبوع، وغناء شجي.. هكذا عاشت صباح، هكذا كانت صباح.. ثم حدث ما ليس من حدوثه بد.. دارت الأرض دورتها حول نفسها والشمس.. جاء نهار وذهب نهار.. وولد أطفال عديدون، من بينهم بنات، ثم دارت الأرض عدة مرات أخرى فصارت البنات نساء احتللن المقاعد الأمامية.. لعبة الكراسي الموسيقية التي تتقنها الحياة.
يوم بعد يوم، عام بعد عام، كبرت صباح، كبرت ولم تصدق أن العمر حرامي، والكوكب الأرضي لن يكف –مهما فعلت- عن الدوران.. راحت أيامها وزحفت تجاعيد السنين، كطماطم ذابلة، كبشرة هندي عجوز، كقلب دعكته الخطوب.. توالت قصص زواجها من شبان في عمر أحفادها، امرأة المرمر تحولت إلى مادة نميمة وتندر وحكايات، أميرة الحب صارت عجوزاً ترتدي ما تخجل منه بنت العشرين.
ذهبت صباح الأعجوبة، وبقيت صباح الأمثولة، زوج وراء زوج، عشيق في إثر عشيق، كلهم يضربونها، ينهبونها، يبتزون مالها، وفي النهاية يهجرونها.. فيلم مكرر، فيلم مؤثر، فيلم حزين.
أبداً لن أقسو عليها، أو أسخر منها، أو أراها إلا كما هي في الحقيقة: امرأة في أزمة، سرقتها الأزمنة القديمة، والأحلام القديمة، والآمال القديمة.. امرأة تعذبها مشاهدة الأفلام القديمة، وصباح القديمة.. لم تصدق أن الأرض تدور، والأيام ترحل، والوجوه تشيخ.. ديدن حياتنا الأرضية، الفظة المخادعة، تهدهدنا بالأماني ولا تكلف نفسها عناء الاعتذار.. وفيما استسلمنا نحن لأحكام المقادير، ظلت صباح مخطوفة في الأيام الجميلة، مع كمال الشناوي ورشدي أباظة وعبد الحليم.
شال الجدات
صـباح: معركة الإنسان اليائسة مع قوى أعتى منه، قواعد المأساة الإغريقية مع العناصر الأزلية وأهمها الزمان.. لم يطاوعني قلبي أن أنظر إليها قط كمهرج في سيرك بل وثبة روح مقاتلة من أجل الحياة.. صحيح أنها وثبة بائسة، يائسة، محكوم عليها بالفشل، محاولة طفل أن يطير عكس قوانين الطبيعة بلا ريش ولا جناح، صحيح أن الهزيمة هي قدرها النهائي في معركة محسومة سلفاً تثير كل لواعج الأشجان.
أواه يا زمن، تبدأنا بالأمل وتنهينا بالألم، تغرقنا بالشهد وتختمنا بالعلقم، تمنحنا نضارة الشباب وتدخر لنا تجاعيد الشيخوخة، تأخذ وجوهنا النضرة وعيوننا اللامعة وملامحنا البريئة، وتمنحنا بدلاً منها وجوها حزينة، متعبة، مجهدة، لا تمت بصلة لوجوهنا القديمة.. أواه يا زمن، تريدنا أن نستسلم لحكمك القاسي، نتظاهر أننا قد كبرنا، وامتلأنا حكمة، والحقيقة أننا نتوق للعب والحب والحياة، وفي كلنا جزء من صباح.
صباح؛ يا من تحاربين الزمان بفستان ملون ومساحيق زينة وقلب مفعم بحب الحياة.. انزعي فساتين البنات وارتدي شال الجدات، اغسلي وجهك من مساحيق الزينة وانعمي بشيخوخة تستحقينها، آن الأوان للمحاربة العجوز أن تضع سلاحها وتستريح، حينما يكون خصمك هو الزمان فإن الهزيمة يكون لها طعم النصر، ولا يبقى أمامنا غير الراية البيضاء والاستسلام المريح.