أيها العرب.. صباحكم بطعم الحب
...............................................................
بقلم : د.أيمن محمد الجندى
.............................
|
أيها العرب.. صباحكم بطعم الحب |
عدت إلى مصر الأسبوع الماضي، زمن المباراة المشئومة بين مصر والجزائر، عدتُ وكأن عندي موعداً مع الحزن.. الوحشة والليالي الطويلة، والغربة بين الأهل والأحباب، ومشاكل جمة على المستوى الشخصي والوطني، حملة الكراهية الممنهجة بين الشعوب، وإحراق الأعلام المتبادل، وإهانات مصرية جزائرية لا يستحقها كلانا بالتأكيد.
وفي غمار هذا البؤس تصادف مشاهدتي لفيلم جميل ملأ حياتي بالبهجة، فيلم يدعو إلى المحبة، وينقض البغض ويوثق عرى المودة، ويموج بالعذوبة والصفاء.. وكنت قد تواعدت على زيارة صديقي الأثير في بيته، صديقي الودود الطيب الذي تعود علاقتي به إلى ثلاثين عاما مضت حين كان القلب أخضر، والأشجار صغيرة، والكروان يعلن حبه في سماء المدينة كل مساء، قبل أن ييبس القلب، ويذبل الشجر، ويرحل الكروان.
"الآباء الصغار"
في الخارج كانت الضوضاء، الشارع المصري مُهدم على من فيه، في تلك الفترة الانتقالية الحرجة بين ماض يرحل ومستقبل يتشكل، أما الحاضر فيدفع ثمنه منكوبون تصادف وجودهم في زمن الاضطراب، مصر تغير أسنانها ومعه السهر والحمى، مصر تغير جلدها متحملة الألم والعذاب، لكن قلبها لم يتغير.. قلبها العجوز الذي لم يزل يدق منذ آلاف السنين.
الوضع كان هكذا: جالساً في بيت صديقي على السجادة الوثيرة راضياً بصحبته، سعيداً بمودته، والقلب ساجد شاكر مستشعر للنعم، اقترح صديقي أن نشاهد معاً فيلماً سورياً وقع في غرامه منذ أن شاهده، وكلما تكرر عرضه التصق صديقي بالمقعد حتى ينتهي الفيلم.
بدأنا المشاهدة، أطفأنا النور، وأشعلنا كل مصابيح القلب.. "دريد لحّام"، الساحر القدير الذي لا يكف عن إدهاشنا.. من أي مجرة جاء هذا الرجل؟، وعلى شعاع أي نجم حملته المصادفات السعيدة إلى كوكبنا التعيس!، الفيلم اسمه "الآباء الصغار"، إذا كنت تريد أن أصفه لك فتذكر كل المفردات الحلوة في عالمك، العذوبة، الرومانسية، الرقة والحنية، اللطف والظرف، السلاسة والبساطة، البهجة، مذاق الشيكولاتة- وأنت طفل- في فمك، قبلة النعناع في خدك، ابتسامة أمك، شرائط شعر أختك الملونة، ذراعك حين يتأبطه أخوك، العلامة النهائية التي أحرزتها يوماً ولم تصدق أنك أحرزتها، تذكر كل مشاعرك الجميلة، غير المرتبكة، التي تسير في اتجاه واحد، كي تكمل الناقص في حقل مفرداتي.
عائلة عربية جداً
"ودود عبد الرحمن"، أو دريد لحام، مساعد الشرطة البسيط الذي توفت زوجته للتو.. رفيقة دربه، والمرأة التي لم يحب سواها، لكنه لا يملك رفاهية الحزن، أو ترف الانهيار، أو يتكور في فراشه عائداً إلى الوضع الجنيني، أو يخرج إلى جبل "قاسيون" صارخاً في الهوة، بل يجب عليه أن يملك نفسه ويضبط انفعالاته، فهناك ما هو أهم من الحزن والدموع؛ مطلوب منه أن يمنح الحنان لأطفاله الأربعة: يرعى شئونهم، يتابع دروسهم، يقيم دعائم بيتهم، مطلوب منه أن يواسي حزنهم وهو الحزين، ويأسو جراحهم وهو الجريح، ويمسح دموعهم هو المحتاج لكل "مناديل" العالم.
مطلوب منه أيضاً - وكل حجر في بنائه ينهار- أن يلتحق بعمل إضافي بعد أن فقد راتب زوجته الذي كان يعينه في مصاريف البيت، يقيم أودهم، يقيهم العوز ومد اليدين بالسؤال.
بيت سوري جدا ،كما تلاحظون، بيت مصري جدا، جزائري جدا، مغربي جدا، عربي جدا.. في شرقنا التعيس يرتفع كل بناء إلا قامة البشر، وتغلو كل قيمة إلا قيمة الإنسان.. لكن الحياة لا تخلو من البهجة، ومهما طال الليل فثمة صباح، وإن عز الصبر فهناك التصبر، وإن ذهب الجلد فهناك التجلّد.
وهناك أيضا "الآباء الصغار": أربعة أبناء أغلى من كنوز الأرض، أكبر من مجرد امتداد بيولوجي أو انتقال وراثي ناتج عن لحظات حميمة، بل روح الأم الصابرة، الوديعة الطيبة، التي أخفت المرض لأن مصاريف البيت لا تحتمل ترف الذهاب لطبيب.
أُم سورية جدا ،كما تلاحظون، مصرية جدا، سودانية جدا، عربية بامتياز.. الأم كما يجب أن تكون، وكما خلقها الله، روح ترفرف على الأرض القفار فينبت الزرع ويزدهر النبات، الأنوثة التي هي المقابل الموضوعي للخصب، والنماء والحياة، ومن هيكلها الترابي الذي التحق بالأرض- انتقلت روحها العذبة إلى نفوس أبنائها الأربعة، نورا وجابر ومعن وغزل، لتبدأ مباراة رائعة في التفاني وحب الأب بدءاً باقتراح من الأخت الكبرى نورا أن يستغلوا الفائض من وقتهم في كسب المال حتى يستطيع أبوهم إكمال دراسته في كلية الحقوق، فيتحسن حاله ولا يجد نفسه مضطرا للعمل الإضافي.
كانت دموعي تنهمر وأنا أحاول أن أخفيها -في الظلام السائد- عن صديقي الحميم، ودريد لحام يعزف على أوتارك المشدودة بكثير من شجن، ورقة وحنان، ووسط مواقف كوميدية تمتلئ بالحزن، ومفارقات مضحكة مبكية، يتمكن الآباء الصغار من كسب المال بطريقة تناسب أعمارهم: فالطفلة الكبيرة تقوم (بتفصيص) البسلة ووضعها في أكياس تجهزها للبيع، والأخ الأكبر يمسح الزجاج في محطة بنزين، والصغير اللطيف يبيع الورد بطريقة مضحكة متحضرة.
أحبك.. هنا وهناك
ولم يكتف دريد لحام بكل هذه النعومة والجمال، وكأنه يأبى إلا الاستيلاء التام على قلوبنا، فقد اتخذ الفيلم بعداً قومياً حين ظهرت شخصية "أمل"، التي جسدتها "حنان ترك"، الفتاة المصرية المنتدبة من اليونسكو للعمل في متحف دمشق، وسكنت مع "الآباء الصغار" في غرفة أخلوها لها بالإيجار لتساعدهم على مضاعفة دخلهم.
في البدء كان التفاهم مستعصياً بين اللهجة المصرية والسورية، ثمة مفردات تحمل معان مختلفة وأحيانا متضاربة، (حاسب) تعني في مصر (خد بالك) وفي سوريا تعني أن تدفع الحساب، (التلاجة) اسمها البرادة، (إزيك) تعني (كيفك)، (بنوب) تعني أبداً.
في البدء كان الجليد، لكن شرارة الحب التي اندلعت بين الفتاة المصرية والصغيرة "نغم" أذابت كل الجليد.. الحنان الفطري في فتاة لم تتزوج بعد تجاه طفلة يتيمة فقدت أمها للتو، الحب: اللغة المفقودة بين البشر، والحرف المسحور الغائب من حروف الأبجدية، كلما اشتبك بكلمة صارت الكلمة: "أحبك"، لحظة الخلق الأولية حينما قال الخالق سبحانه وتعالى"ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين".
وهكذا، بأمر الحب الذي لا يُرد أمره، بسلطانه الذي يأمر فيُطاع، حدث تبادل مدهش في الاتجاهين، حنان ترك أتقنت اللهجة السورية ولم تعد تتكلم إلا بها، والعائلة السورية أتقنت اللهجة المصرية ولم تعد تتحدث إلا بها، أو كما لخصت أغنية الفيلم الختامية الأمر كله في كلمات بسيطة هادئة: "كلمة هنا، غيرها هناك، وكلمة هناك، غيرها هنا، بس "بحبك" هي هنا، وهي هناك".
في هذه اللحظة لم يعد بوسعي أن أداري أكثر، في الظلام والألفة والحلم الملون كان صعبا ألا ينفذ الحب في قلبك كالسكين، كرحمة علوية تملأ روحك بالسكينة، كانت المفارقة مدهشة بين فيلم يعلّم الشعوب الحب ومباراة كرة قدم تعلم الشعوب الكراهية، التناقض الفج بين النور والظلام، والحب والمقت، والعطر والروائح القبيحة، بين من يدعوك إلى الجنة ومن يدعوك إلى النار، وفيما كانت كرة القدم تمزق الشعوب وتلون الأيام بالأسود القبيح، كان الفن يُرقق القلوب، ويلون الأيام بالأخضر المريح.
ينتهي الفيلم نهاية سعيدة، دريد لحام يحصل على إجازته العلمية، الحب يرفرف بجناحيه فوق الأسرة السعيدة، لم يتورط دريد لحام –وهو القدير– في علاقة عاطفية مع حنان ترك، الفنان فيه كان أذكى من هذا التناول السطحي، لأن مراده أعظم وهدفه أكبر: الحلم العربي الكبير.
فيلم سوري بامتياز، ساهم -ولو بشق تمرة- في تذكير العرب بحلمهم القومي المشترك، الحلم العربي، أمة واحدة، لسان واحد، قلب واحد، مصير واحد، عدو واحد، وتبقى سوريا قلب العروبة الذي بدأ الحلم، ودفع الثمن، أول –وآخر- شعب في التاريخ يتنازل عن حكم نفسه من أجل الدولة الحلم: الوحدة العربية، حكاية لولا أنها مسجلة لقلنا إنها حكايات جدات وتخاريف أساطير.
فجر الغفران
ربما أكون ساذجاً، أو حالماً رومانسياً ينتمي إلى فصيلة منقرضة، ولكني فعلاً أحب العرب، بعيوبهم ومزاياهم، بغلظتهم ولطفهم، بسمارهم وبياضهم، برجالهم ونسائهم، حباً ودوداً صافياً يقبل عذرهم ويعفو عن مٌسيئهم.
أحب السوداني بعمامته البيضاء وملابسه البيضاء وقلبه الأبيض، أحب لون بشرته الذي يبرز بياض أسنانه، ولهجته الظريفة، الطفولية نوعا ما، المفعمة بالسذاجة والفطرة الحلوة، وأحب السودانيات بطلتهن البهية وملابسهن الملونة وألفتهن الحميمة مع شباب بلدهم، يمشون في الشوارع العربية زرافات زرافات في بهجة آسرة وطمأنينة واضحة، فتدمع عيني حين أشاهدهم وأغمضها عن سودان الحروب والتمزق الذي أشاهده الآن، وأحلم بسودان آخر قادم بلا ريب، سودان الخصب والنماء واللون الأخضر، سلة طعام العرب، وملايين الأفدنة الملونة بالأخضر، وأشجار المانجو تلقي بثمارها العطرة تحية لكل عابر سبيل.
وأحب الشام بمعناه الواسع الكبير. بلاد الأنبياء والمحبة، واللطف والخصوصية، بجباله الخضراء ووروده الجورية، أحب الدروب الشامية المفعمة بالأسرار، والبيوت الدمشقية المسكونة بالحنين، والحزن المزروع في الزوايا، أحب لهجتهم الموسيقية، وشبابهم الوسيم المثقف المفعم بأحلام العروبة، ونسائهم الجميلات مزيج الياسمين بالفضة، والعطر بالعنبر، والدلال بالجمال.
وأحب السمار الخليجي بملامحهم العربية والقهوة العربية وطلة الصحراء، وأحب اليمن بجباله وقهوته وعروبته ومجده التليد، وأحب المغرب خليط الأندلس والبربر والجبال والمحيط، وأحب تونس بالزان والسنديان والزيتون، بطعم شاعرها المرهف أبي القاسم الشابي، وشعر شبابه المتمرد في كل الجهات، وسمرة نسائه التي احتار الشعراء في وصفها: هل هي ارتماء آخر شعاع شمس في بحيرة عسل؟، أم سقوط شعاع نجم في كأس خمر؟.
أحب...
وأحب...
وأحب...
أحب العرب ولا أخجل من إعلان هذا الحب، أحب اللسان العربي والجنس العربي والقلب العربي، وأؤمن أن هناك شيئاً يجمع بيننا، وإن كان يصعب وصفه أو سبر غوره، ولكني استشعره حتى لو تبادلنا السباب، فهناك اللغة المشتركة التي نتشاتم بها!!، وهناك الذكريات المشتركة والحاضر المشترك، وهناك فجر قادم عن قريب أرى نوره في حلك الظلام، فطوبى لكل من استعجل قدومه بكلمة حب أو نظرة ود أو دعوة صفح وغفران.
صباحكم بطعم الحب أيها العرب.
طبيب وكاتب ويمكنك التواصل معه عبر البريد الإلكتروني الخاص بالصفحة
adam@iolteam.com
06/11/2014