| | | | توريث السلطة في مصر: الملف الكامل ...............................................................
بقلم : هويدا طه ...................
منذ سنوات وسنوات وحتى هذه اللحظة يدور شدٌ وجذب بين طرفين في مصر، يشهده طرفان آخران عن بُعد، الطرف الأول فئة من المثقفين المصريين لديهم (شكوك) بشأن سعي الرئيس مبارك إلى توريث السلطة لابنه السيد جمال مبارك ، الطرف الثاني هو القصر، الرئيس وعائلته وفرقة دعم تتكون أيضا من مثقفين مضافا إليهم بالطبع بعض رجال الأعمال وبعض المسئولين في النظام الحاكم، طرف ثالث هو العالم.. يراقب وينتظر وقد يتدخل، أما الطرف الرابع فهو الشعب المصري.. الذي لا توجد استطلاعات رأي حقيقية موثقة عن رأيه في قضية (توريث الحكم في نظام جمهوري)، الجميع يتحدث باسمه وهو كالعادة.. لا يبالي. ** في البدء.. كان المثقفون يعلنون شكوكا والقصر ينفي دون أن يجزم، مؤخرا.. بدأ شيء يشبه ( اللعب ع المكشوف) بين وريث محتمل لسلطة جمهورية ونخبة من المثقفين، فأحدى حلقات برنامج (القاهرة اليوم) الأسبوع الماضي استضافت كاتبا لبنانيا شهيرا هو جهاد الخازن.. في حوار ٍ لا تحتاج كثير جهد لتدرك أنه مدروس، حتى أن الضيف بدا وكأنه يقول قولا محفوظا أو متفقا عليه مسبقا! إذ تحدث عن السيد جمال مبارك باعتباره من وجهة نظره .. لا بديل له! معروف عن جهاد الخازن أنه مشهور (بخبرة المرونة ) مع الأنظمة العربية المالكة وعلى رأسها النظام السعودي! هذا الضغط الإعلامي المدروس في اتجاه ( ألا بديل) للسيد جمال مبارك لحكم مصر.. يدفع دفعا للبحث في نقطتين أساسيتين: أولا: كيف تتعاطى الأطراف الأربعة ( عائلة الرئيس مبارك ، المثقفون الرافضون للتوريث، العالم، الشعب ) مسألة ما اصطلح على تسميته مصريا وعالميا ( مخطط التوريث)؟ ثانيا: كيف سيكون الأمر مستقبليا في مصر في الحالتين: ورث السيد جمال مبارك الجمهورية.. أو لم يستطع لظرف ما أن.. يمر! عائلة الرئيس (والفتى ساع ٍ لأقصى أمل ٍ... لم يزل يطلبه حتى بلغ ْ )! أبو العلاء المعري ** على مدى سنوات وسنوات منذ ظهر السيد جمال مبارك على المسرح السياسي المصري.. لم تسجل للرئيس مبارك أو أي ٍ من أفراد عائلته أي إشارة (مباشرة واضحة صريحة) لرغبته في وضع ابنه خليفة له في رئاسة مصر!، جميعنا نعرف أن السيد الرئيس (نفى) ذلك.. بل وله (أقوال مأثورة) في هذا الصدد.. مثل تعليقه الشهير لإحدى وكالات الأنباء حين سئل عن هذا الأمر.. إذ قال ( مصر ليست سوريا )، وجميعنا نعرف أن السيد جمال مبارك قال لوكالات أنباء عدة وفي محاضرات ولقاءات عديدة معه إنه (لا يفكر في الترشح للرئاسة)، فلماذا إذن نصدع أنفسنا بتلك الهواجس عن احتمالية أن يرث الابن منصبا من المفترض ألا يورث؟! السؤال بطريقة أخرى: من تراه المستفيد فعليا من طرح هذه المسألة في الشارع السياسي المصري رسميا وشعبيا بهذا الشكل المُلح المتزايد بلا كلل؟ ** ربما يكون المستفيد حقيقة هو عائلة الرئيس نفسها! إذا كانت بالفعل تخطط لفرض السيد جمال مبارك رئيسا لمصر خلفا لأبيه! إذ أن تدرج الأمر على مدى سنين وسنين (يخدر) الشعب ونخبته المثقفة على حد ٍ سواء.. بحيث لا يكون التوريث – إذا ما تم – مفاجئا صادما مبلبلا، وبغض النظر عن الطريقة التي يتم بها، وهذا شيء له أساس في (علم نفس الحشود)! ففي كتابه عن (سيكولوجية السلطة – سيكولوجية الجماهير) نصح جوستاف لوبون – عالم اجتماع نمساوي متميز في القرن التاسع عشر- نصح الملوك كيف يسيطرون على (الغوغاء) ويقصد بهم الشعوب عموما..قال إنه ينبغي على الملوك أن يتركوا هذه الكتل البشرية (فريسة للهواجس) دون أن يريحوهم بمواقف قاطعة! فهذا يتيح الوقت للمليك كي يمضي في تحقيق أهدافه! وفي نصيحة أخرى قال إن الملك عليه أن يدفع أفراد شعبه لأن يكونوا (أسرى للاختلاف حول هدفه) فهذا وضع يكون مصيره النهائي.. تحقق الهدف! ** عائلة الرئيس مبارك إذن لم تقل أبدا إنها تريد توريث الحكم في نظام جمهوري.. وهي تعلم أن الشعب لا يصدقها ونخبة الشعب لا تصدقها.. والعالم لا يصدقها.. بل وحتى الرجال الموالين لها قلبا أو قالبا أو كليهما لا يصدقونها! ومع ذلك ورغم أنه لم يُـمسك عليها (قولٌ) واحد يحسم الأمر فإن (أفعالا) تمسك عليها تشي بأن ( تحقيق الأهداف ماض ٍ بلا كلل)! ولأننا جميعا وقعنا في (فخ ) منصوب لنا انشغلنا بأجندة فرضتها العائلة علينا.. وبحكم ( طول العشرة) أصبحنا نعرف (نفسية) الرئيس! فهو إلى جانب أنه عُرف عنه (في أدبيات السياسة المصرية) إنه كلما نفى شيئا فإن هذا الشيء سينفذ بعد قليل! عرفنا عنه أيضا أنه ومنذ توليه رئاسة مصر (يخشى) المنافسين.. يقصيهم.. ينفيهم.. يزيحهم.. وإن بطرق سلمية! كلما برزت شخصية يحتمل في بروزها أن تنافس كان مصيرها ذلك الإقصاء، عبد الحليم أبو غزالة وعمرو موسى ليسا الوحيدين! ثم أنه ورغم كل الضغوط عليه لتعيين نائب لم يستجب أبدا.. وبقدر ٍ من الحسم يثير الذهول! لكن والحق يقال فإن وجهة نظره في هذا السياق لا تخلو أبدا من منطق! إذ قال ذات مرة في لقاء معه: " إن العُرف في مصر جرى على أن منصب الرئاسة ينتقل تلقائيا لنائب الرئيس إذا ما اختفى الرئيس لسبب من الأسباب.. وإنا لهذا السبب لا أريد أن أفرض على شعبي الرئيس القادم.. لذلك أرفض تعيين نائب كي أترك الأمور للشعب ليختار الرئيس القادم بنفسه"! والله إنه لرأي وجيه! نشكر سيادة الرئيس عليه! ** لكن الأيام تثبت أن مسيرة تحقيق هدف العائلة ماضية.. فالدستور تغير بكلمة من الرئيس ليصبح ممكنا (اختيار الرئيس من بين مرشحين بالتصويت المباشر) وهذا بالطبع إنجاز لم يسبق له مثيل في تاريخ الشعب المصري المغرق في القدم، إنجاز حتى وإن لم يتم من أجل عيون المصريين.. ولكن؟! ولكن صيغ الدستور – وبكلمة من الرئيس أيضا- كي يفصل تفصيلا لمرشح قادم.. نحن نعرفه والرئيس يعرفه ويعرف أننا نعرف ونعرف أنه يعرف أننا نعرف! والمسيرة تمضي نحو تحقيق الأهداف كما أوصى جوستاف لوبون! وغير فعلة تغيير أو (تفصيل) الدستور هناك أفعال أخرى.. هذا التغلغل المنتظم للسيد جمال مبارك في الحكم بدء من تعيينه مستشارا اقتصاديا للرئيس الذي هو أبيه.. وظهور ما يسمى لجنة السياسات والبروز الإعلامي لنجل الرئيس والزحف المنتظم للهيمنة على قرارات حزب أبيه الحاكم والتعامل رسميا مع العالم دون أن يكون صاحب منصب رسمي يؤهله لذلك و.. و..، إذن عائلة الرئيس تنفي قولا ويبدو أنها تخطط فعلا وذلك طبقا لشواهد (وقعنا في أسر) تحليلها، لكن المحصلة النهائية- رغم ذلك- أن الرئيس وعائلته مازالوا حتى اللحظة.. ينفون! المثقفون ويوصفُ القومُ في العلياء ِ أنهمُ .... شُمُ الأنوف ِ ، وفي آنافــِهم ذلـف ُ ينجمونَ وما يدرون َ لو سئلوا.... عن البعوضة ِ أنىّ منهمُ تقفُ وفرّقتهم على علاتـِها مللٌ.... وعندَ كل ِ فريق ٍ أنهم ثـَقـِفوا يـُـخبرُ العقلُ أن القومَ ما كرُموا... ولا أفادوا ولا طابوا ولا عرفوا أبو العلاء المعري ** شكوك.. استنتاجات.. تحليلات.. هذا كل ما تملك النخبة المثقفة الرافضة لما أسمته (مخطط التوريث).. لا تملك إلا الهواجس.. وهواجس الشعوب مفيدة للملوك! جميعنا نسوق الأدلة في تحليل وراء تحليل على أن السيد الرئيس يسعى لتوريث نجله منصبا لا يورث! ثم.. ثم نكتفي بالتحليلات والاعتراض والرفض.. بل والاشتباك مع (معسكر الموالاة) في تحليل وتحليل مضاد!.. حتى صرنا (نستمرئ) هذا الاشتباك، يذكرني هذا بقصة من كتاب كليلة ودمنة.. كان فأر يريد المرور من بين جمع من الناس.. يُخرج رأسه من الجحر فإذا وجدهم منتبهين يرتد إلى الوراء دون أن يلغي الفكرة.. ثم يعيد الكرّة مرة بعد مرة.. حتى وجدهم في إحدى مناوراته منهمكين في الهذيان والكلام والاشتباك.. الفأر ببساطة شديدة.. نعم بتلك البساطة.. وبينما ذيله يتمايل يمينا ويسارا... مرّ ! ** فالرئيس ونجله لا يباليان بهؤلاء! وهؤلاء بدورهم يمارسون رفضا يستغرق الوقت والطاقة.. بدون خطة (أ) في حال صدق التكهنات بوجود ما سموه (مخطط التوريث) أو خطة(ب) في حال نجاحها وفشلهم في وقفها.. وهذه علة النخبة في مصر.. تقف عند الانفعال بخطط الآخر لكنها لا تخطط أبدا.. حتى الآن لا توجد رؤية بديلة تبلورها النخبة المصرية.. لا توجد فلسفة للتغيير ولا يوجد لدينا فلاسفة للتغيير، نخبة مفككة.. جهودها مشتتة رغم إخلاصها لمستقبل الوطن.. لكن ورغم مشاكل النخبة المثقفة في مصر فإنها المرشحة الأكبر لإيقاف ليس فقط مخطط التوريث وإنما أي مخطط يسلب من المصريين مستقبلهم! ولنرى كيف يمكن للمثقفين المصريين الالتئام لتأسيس (جمعية وطنية) لإنقاذ مستقبل مصر.. لنرى ذلك في تجربة (الثورة الفرنسية) وهي الثورة التي اندلعت على يد مثقفي الطبقة الوسطى الفرنسية حينها.. خطة (أ) من تجليات الثورة الفرنسية ** في نشرة بعنوان:"ما هي طبقة العوام؟" صدرت في يناير من عام 1798 ( أي قبل اندلاع الغضب الفرنسي بأقل من سبعة أشهر) طرح المثقف الفرنسي جوزيف سييز ثلاثة أسئلة وأجاب عنها:"ما هي طبقة العوام ؟ إنها كل شيء.. ما حالها حتى الآن؟ لا شيء.. ماذا تريد هذه الطبقة أن تكون؟ تريد أن تكون شيئا ما.."، الثورة الفرنسية كانت ثورة مثقفي الطبقة الوسطى التي ضاقت ذرعا باحتقار وتجاهل النبلاء لها، كانت خطب ميرابو وروبيسبير وجان بول مارا تلهب مشاعر الشعب الفرنسي، وتحركه وتنظم غضبه الموجود أصلا، وتحول الفوضى العارمة التي صحبت بدايات الثورة إلى فعل إيجابي يضع أحلام الثوار موضع تنفيذ، فاستطاعت هذه الجماهير أن تسقط الباستيل المرعب، بل واستطاعت أن تفعل المستحيل.. حينما انتظمت تحت المطر والبرد وبدون اجر، لتسوي مساحة من الأرض تبلغ ثلاثمائة مليون قدم مربع وتبني فيها الشرفات والمنصات في خمسة عشر يوما فقط، من اجل الاحتفال فيها بدستور جديد يعلن لأول مرة في التاريخ المساواة بين المواطنين أمام القانون، الشعوب إذن لا تخرج صباح ذات يوم من تلقاء نفسها، لتصرخ رافضة الظلم، هناك من يهيئ المناخ للغضب، وهم المفكرون والمبدعون الذين يشقون طريق الغضب في صدور المقهورين، وإذا قال أحدهم إن الاحتجاجات التي توالت في مصر في العام الماضي لم يقدها مثقفون وإنما عمال وموظفون نقول إن هذا صحيح ولكن.. لم تنشأ تلك الاحتجاجات فجأة ومن تلقاء نفسها.. بل تشجع هؤلاء بتأثير مبادرة قلة من المثقفين عام 2004 بالخروج إلى الشارع في جو سياسي كان تقريبا ميتا.. فألقوا حجرا في مياه راكدة، الجماهير الفرنسية التي أسقطت الباستيل وساقت الملكة المتغطرسة إلى المذبح كانت قد جهزت تماما بفعل سحر إبداع وجرأة وتحريض المفكرين والمبدعين الفرنسيين على اختلاف طروحاتهم، مثل روسو و مونتيسيكيو وغيرهم كثيرون، سواء كان طرحهم قد مثل صدمة علمانية ضد تخلف وغطرسة وظلم الكنيسة ورجالها، أو صدمة فنية في مسرحيات تصرخ بطلب العدل، فقد دعيت سيدة مثقفة اسمها مانون رولاند لزيارة سيدة من طبقة النبلاء قبيل الثورة الفرنسية، وكانت رولاند سيدة رقيقة كيسة مثقفة كما تصفها كتب التاريخ، وعندما طلب منها أن تأكل مع الخدم وألا تجلس إلى المائدة مع الضيوف النبلاء صرخت صرخة مروعة احتجاجا ورفضا، التقط المبدعون صرختها في إبداعاتهم المسرحية.. فأوصلوها للشعب الفرنسي بأكمله ** كان آرثر يونج- الذي عاصر الثورة الفرنسية وكتب عنها- يقوم برحلة في مقاطعات فرنسا في العام الذي اندلعت فيه الثورة الفرنسية عام 1789، وقابل الرجل فلاحة فرنسية كانت تشكو من الضرائب والمستحقات الإقطاعية التي تجعلها على حافة الإملاق، وذكرت أن باقي الفلاحين مثلها، لكنها أضافت قائلة:" أعلم أنه لابد أن يقوم عدد كبير من الناس بعمل شيء.. أي شيء.. من أجل هؤلاء البؤساء، فالضرائب والرسوم تسحقنا". وفي مصر هناك بالفعل من ينبغي أن يفعل شيئا وهو تلك الشريحة من الطبقة الوسطى في مصر التي كان يتم على يدها التغيير في كل مرة تغير فيها وجه مصر، منذ أسس محمد علي الدولة الحديثة، الذي ينبغي أن يفعل شيئا هو هؤلاء المثقفون- القادرون- على (تكوين جبهة) تطلق الشرارة الأولى، وبعدها سوف يدعمهم هؤلاء البائسون الذين ينتظرون فقط أن يضيء أحدهم الطريق، هذا لا يعني أن الحل للمأساة المصرية هو انتظار(المسيح المخلص)، فالحقيقة أن ثورة عظيمة مثل الثورة الفرنسية لم يكن لها قائد بعينه! وإنما هيأ لها مناخ فكري جريء ساهم في تكوينه عشرات المفكرين الذين طرحوا أفكارا ترفض التخلف الديني والسياسي والاجتماعي، ثم قادها مجموعة من المثقفين الثائرين الرافضين للقهر الذين ألهبوا الجماهير الجاهزة للانفجار، ** ففي بداية الثورة عام 1789 تكونت (الجمعية الوطنية) التي قادت فرنسا حتى أصبحت فرنسا التي نعرفها الآن، لم يكن فردا محددا..لم يكن مفكرا بعينه..لم يكن ثائرا بالذات.. مسئولا عن تلك الثورة! إنما مجموعة من المثقفين كونت (الجمعية الوطنية)، والتي اعترض الملك لويس السادس عشر في أيام ضعفه الأخيرة على اعتبارها ممثلة للأمة الفرنسية، بحجة إن ذلك غير قانوني! ولكن (الأمر) كان قد بدأ، والمعايير التي كانت تحدد ما هو قانوني وما هو غير قانوني لم تعد ذات أثر أو قيمة في المرحلة الجديدة، هذه (الجمعية الوطنية) حلت نفسها بمجرد صدور أول دستور يقر ببدايات حقوق الإنسان التي تتحدث عنها الآن كل الأمم، ** يحتاج المصريون إذن إلى تكوين مثقفيهم الكبار لشيء أشبه بالجمعية الوطنية التي أنشأها المثقفون الفرنسيون قبل أكثر من 300 سنة، (جمعية وطنية) لا تصطبغ بلون تيار بعينه وإنما تعلن (موقفا) من تكهنات تفترس طاقة هذا الشعب، جمعية وطنية تخطط لوضع (دستور بديل) وحتى لو رفضها النظام الحاكم كما رفض أختها الفرنسية الملك لويس السادس عشر.. فإن الأمر حينئذ سيكون قد بدأ.. بشيء من قبيل (النسخة المصرية) من الجمعية الوطنية الفرنسية مع مراعاة فارق ثلاثة قرون، يمكن للمصريين أن يفشلوا أي مخطط يسلب منهم المستقبل ، ويمكن لهم أن يصوغوا دستورا جديدا يكون بمثابة خطة واضحة للشعب، وحين تتكون تلك (الجمعية الوطنية) سوف تبرز البدائل.. وحينئذ لن يقول أحدهم بكل تلك الثقة والأريحية.. ألا بديل هناك للسيد جمال مبارك.. العالم والتوريث من المدهش حقا أن توريث السلطة في نظام جمهوري ليس (بدعة مصرية)! فدوليا ها هو حيدر علييف في أقصى شرق آسيا وضع ابنه إلهامي علييف في منصب رئاسة جمهورية أذربيجان! وفي أفريقيا ورث جوزيف كابيلا مركز أبيه لوران كابيلا في قيادة حركة تمرد ثورية في الكونجو الديموقراطية! وفي العالم العربي ورث الفتى سوريا عن بكرة أبيها! والآن يتصاعد اسم ابن على عبد الله صالح في اليمن واسم ابن القذافي بل واسم ابنته أيضا! وبنفس تلك الوتيرة التي تصاعد بها اسم جمال مبارك في مصر حتى طغى! دوليا إذن حدث أن تحركت غريزة السطو والاقتناص داخل نفوس الرؤساء الذين يرأسون جمهوريات مشوهة، (فلم تثر مثل هكذا قضية في بريطانيا مثلا أو فرنسا، فتلك شعوب بذلت أنهارا من الدماء حتى تمكنت في نهاية المطاف أن تمسك العصا للحاكم وليس العكس!) شعوب تلك الجمهوريات المشوهة لم تتشبع سياسيا واجتماعيا وثقافيا بروح الديمقراطية الحقيقية، فهي لم تتعب حتى تحصل عليها ولم تضح ِ من أجل نيلها، لذلك يسهل على الرئيس القناص أن يستكثرها عليهم ويسهل عليه أن يستسلم لغريزته فيحاول اختطافها لابنه، وقد يتصادف أن تساعده مصالح دولية تلتقي مع رغبته المحمومة في الاحتفاظ (بالأمر) لعائلته، فيلقى المساعدة وغض الطرف الدولي عن فعلته مقابل تسهيلات يقدمها لتلك الأطراف الدولية حتى لو كانت– بداهة– على حساب شعبه! ساعد على نمو تلك الرغبة الخبيثة عند هؤلاء الرؤساء دوليا أن ظروف جمهوريات نهاية القرن العشرين اختلفت عن تلك التي أحاطت بجمهوريات الخمسينات والستينات من ذلك القرن الذي ولى، فقد كان عصر الجمهوريات في أواسط القرن الماضي عصرا ثوريا تحرريا، وبالتالي كان مشينا حقا أن يسطو رئيس على الولاية لصالح عائلته، كما أنه كان عصرا ليس به كل تلك الرفاهية المتاحة للرؤساء الآن، حتى ولو كانوا رؤساء لأفقر الدول فالرفاهية المتاحة الآن تسيل لعابهم حتى ولو كان كفيلا بإغراق شعب بأكمله! في ذلك المناخ الدولي كبر نجلا الرئيس مبارك في مصر! ورأى البعض أن الرئيس مبارك بّيت النية بعد إدراكه المبكر للظاهرة الدولية في غفلة من المصريين فلم يعين نائبا له ولن يفعلها الآن بالطبع! وعندما أصبح الأمر مسألة عائلية كان إعداد الابن للحدث الجلل جار ٍ على مر تلك السنين دون أن يدري المصريون، هكذا يقول محللون! وعندما حان الوقت لبدء الإعلان التدريجي ظلت بالونات الاختبار تنطلق الواحدة بعد الأخرى عاما وراء عام، حتى خرج المصريون من (حالة الذهول الأولية) التي تحدث عادة تحت تأثير طبيعة الخبر الطازج ذاته كاذبا أو صادقا، فبدأ الأمر يظهر علنا بالتدريج، وبدأ المراقبون الدوليون بالطبع يتحدثون في الأمر، وإذا فتحت مواقع جرائد كبرى ذات وزن مثل النيويورك تايمز أو الواشنطن بوست أو الجارديان أو.. أو.. ستجد أنه لا تمر بضعة أشهر إلا وهناك دراسة أو مقال أو تصريح لشخصية دولية يختص بمستقبل (خلافة مبارك) وجمال مبارك، وهناك تحليلات أيضا لرؤية الولايات المتحدة للأمر، ويتبدى ذلك في تحمس القوة الأعظم المنافق لنشر الديمقراطية في العالم العربي وفي مصر بالذات.. ثم تراجعها فورا بعد أن خافت أو خوفت من (البديل الإسلامي) – الفزاعة التي يمسك بها نظام الحكم في مصر لتخويف العالم من أحلامه الساذجة حول دمقرطة المصريين! إذن دوليا لا يمكن التعويل على قوة سواء كانت عظمى أو صغرى لوقف ما يشك المصريون أنه (مخطط للتوريث).. هذا أمر لن تحله إلا (مبادرة) داخلية تتخذ موقفا أو تضع خطة للتصدي ولا تكتفي فقط بالاعتراض، وإلا فعلى المثقفين المصريين إذا تعاظم يأسهم أن (يبقوا في بيوتهم) كما قال الكاتب والأديب بهاء طاهر شاكيا من وحشية الأمن وفقدان الطريق.. الشعب والتوريث ** لكن البائعين المتجولين في شوارع المدن المصرية والعمال المنهكين والفلاحين المعذبين والفقراء المطحونين، والموظفين البائسين وصغار التجار والعاطلين عن العمل، إلى سائر مختلف فئات الشعب يتعرضون لعملية سحق متواصل يمارسها رجال النظام وأعوانه ممن يسمون برجال الأعمال والسماسرة والمنتفعين والوزراء المرتشين وغيرهم من الفاسدين المتألقين في تربة تعهدها النظام الحاكم بالرعاية منذ سنين، هؤلاء المنهكون المقهورون كلهم، كيف ننتظر منهم أن يقودوا غضبا منظما من أجل الديمقراطية أو من أجل إيقاف ما يسميه المثقفون (مخطط التوريث)؟!، هؤلاء لا يبقى منهم في نهاية كل نهار إلا حطام إنسان!، هؤلاء مثلهم مثل الفلاحة الفرنسية التي وصلت إلى حد الإملاق من سحق النبلاء والإقطاعيين لأمثالها، لكنها كانت تعرف- كما يعرف المصريون المسحوقون الآن – أن:"عددا من الناس ينبغي أن يفعل شيئا"! ** لكن ورغم ذلك فإن مخطط التوريث لم يغب عن (التداول الشعبي) بالروح المصرية المألوفة، روح السخرية واللامبالاة المتوارثة عبر آلاف السنين، يظهر ذلك في عشرات النكات التي يبدعها هذا الشعب فقط كي يقول ( أنا فاهم.. بس ساكت بمزاجي)! ولا بأس من توثيق بعض تلك النكات.. واحدة منها انتشرت منذ فترة تقول بأن الرئيس مبارك استشار المفتي كي يشرع له توريث ابنه الحكم فأجابه المفتي بأن ذلك لا يجوز طبقا للشريعة.. فغضب الرئيس وذكره بأنه كان دائما يفتي له بما يريد فكانت إجابة المفتي:" يا ريس النص في دي واضح.. في القرآن لا ينكح الابن من نكحهم أبوه"! وحين خرج السيد جمال مبارك على الشعب المصري متحمسا لمسألة (إنشاء مفاعل نووي لإنتاج الطاقة الكهربية) تداول الناس على المقاهي تفسيراتهم الخاصة لهذا الحماس، وهذه حادثة حقيقية حكاها لي أحد الأصدقاء وهو يضحك بملء فيه.. أحد المواطنين يعمل بقالا ولا يعرف القراءة والكتابة سمع في المقهى أناسا يتحدثون عن (النووي)! قال لهم بأسلوبه الشعبي البسيط:(هو يعني المنوي ده بيعمل إيه بالظبط وماله ومال السياسة؟!) فرد عليه أحدهم وهو يسحب دخان شيشته:(بيطلع منه كهربا.. قالوا كده في التليفزيون.. واحنا يعني محتاجين يعني كهربا كتير عشان المصانع وخلافه).. قال الأول:(ومين بقى شريك المحروس جمال في مشروع المنوي ده؟) فحاول أحدهم أن يصلح له:(منوي يا راجل يا طيب؟! منوي؟!.. اسمه نووي.. نووي.. زي اللي عند أحمد زويل والناس دي)، فقال له ( يعني هو ده بقى اللي حيجيبه المحروس لما ياخدها).. ياخدها هذه كلمة عائدة على مصر! ومؤخرا تناقلت هواتف المحمول رسالة لخص فيها مؤلفها حاضر مصر ومستقبلها تقول ( لست أدري كيف يمكن لإنسان أن يتشائم في بلد رئيسها (مبارك) ورئيس حكومتها (نظيف) ورئيس برلمانها (سرور) ورئيس مجلس شورتها (شريف) ووزير داخليتها (حبيب) ووزير ماليتها (غالي) ومستقبلها كله (جمال).. شعب مفتري صحيح)! وعندما تداولت الصحف والفضائيات مقولات عن (الصراع وحرب تكسير العظام بين جمال مبارك والحرس القديم) علق أحدهم بقوله (العبرة في الصلابة)! ومنذ أشهر قليلة حين انتشرت في القاهرة إشاعة بأن (الرئيس توفي) وظلت الإشاعة تتداول بقوة حتى المساء.. كان رد القصر أن حضر الرئيس مباراة لفريق الأهلي في الثامنة مساء مصطحبا معه حفيده! يومها انتشرت وأيضا عبر هواتف المحمول رسالة بعد ظهور الرّيس في المباراة تقول (الراجل ظهر في الماتش حيا يرزق.. الظاهر عزرائيل باع القضية)! أحد المواطنين عندما رأى ذات مرة صور السيد جمال مبارك على شاشة التليفزيون انطلق بعفوية وراح يغني : ( كل ما أشوفك أبقى نفسي آ.. آ )! الشعب إذن (ساكت.. لكن مش بمزاجه)! وإنما لأن المثقفين اكتفوا بالرفض (الكلامي) أو قبعوا في بيوتهم كما أشار الأديب بهاء طاهر، لم يقوموا (بفعل محدد) لتذكير العائلة الحاكمة بأنه من الصعب مهما كانت درجة الانفراد والجبروت أن تتجاهل ثمانين مليونا من البشر! ** أما إعلاميا فيمكن القول أن (ما بعد الرئيس مبارك ) هو هاجس إعلامي سواء في الإعلام المقروء أو المرئي، وكلا الطرفين يستغله.. النظام ومواليه من جهة والمثقفون الرافضون من جهة أخرى.. وأحيانا يدخل المواطنون على الخط، الفضائيات تدرجت في تناولها لمسألة التوريث بدرجات متفاوتة من الحذر والتحفظ.. البرامج الشهيرة مثل برنامج العاشرة مساء وبرنامج القاهرة اليوم وبرنامج تسعون دقيقة ضمن القنوات الخاصة المصرية أو قنوات الحرة والجزيرة وغيرها.. الجميع يحاول (مس المسألة) بحذر.. صار (الانتظار) سمة لسلوك الطرفين.. وأصبح (تصيد) التصريحات وتفسير الصور الورقة الوحيدة في يد الطرف الرافض- الأضعف- في مواجهة الطرف المستقوي بمفاتيح السلطة.. صور جمال مبارك وتغطية جولاته في مصر والعالم تلح في وسائل الإعلام المصري الحكومي لكن بوصفه (أمين لجنة السياسات) في الحزب الحاكم! لا يشار إلى كونه ابن الرئيس.. هل يعتبرون ذلك- مثلا يعني- ذكاءً أو ما شابه؟! بينما تعرض صور السيد جمال مبارك وهو يوزع أشياء على مواطنين غلابة وكأنه فاعل خير.. لذا يستحق الرئاسة! وفي موازاة الإعلام المصري حكوميا كان أو خاصا.. تحاول وسائل الإعلام العالمية الأخرى عربية وأجنبية مجاراة اللعبة.. بتوجيه السؤال إلى شخصيات من الطرفين- المرحب والرافض- لتوريث الرئاسة، بحثا عن (حسم) لا يوجد- وإن لدوافع مختلفة- عند أي منهما! الخطة(ب) إذا تولى جمال مبارك الرئاسة لن يقف الزمن عندئذ ٍ .. أليس كذلك؟! إذا فشلت الخطة (أ) لتكوين جمعية وطنية ترفض التوريث وتضع دستورا بديلا بمثابة خطة لتحرك الشعب.. فما علينا سوى البدء حينها في اتجاه آخر.. اتجاه (صناعة رئيس)! أو إعداد رئيس.. ربما علينا منذ الآن فتح الباب للتفكير الإبداعي في هذا المجال.. ربما على (الجمعية الوطنية) المأمولة أن تعلن عن (انتخابات موازية) لإعداد رئيس يلتزم بمطالبها.. والبحث عن سبل دعمها إعلاميا حتى تصبح واقعا يتحدث عنه الناس ثم يتحمسون له.. فيكون هناك بالفعل.. بديل! وتخرج النخبة المصرية من (فخ) أجندة مفروضة عليها فتفرض هي أجندتها، لا ينبغي أن يتوقف الحلم بإنقاذ مصر.. الحلم آخر ما يموت، سواء نجحت الجمعية الوطنية في إيقاف مخطط التوريث أو نجحت في صناعة رئيس وإجراء انتخابات موازية.. فإن المهم هو.. ألا نسكت.. ألا نكتفي بالتوقف عند إعلان الرفض كلاميا.. فهذا ما عرفه النظام الحاكم لذلك يتركنا من خلال (سياسة حرية التنفيس) نرفض كل يوم أن يرثنا أحدهم! فماذا يضيره أن نرفض ونحن قعود ؟! أما بعد فلا بأس بأبيات للشاعر المبهر أحمد مطر: إني المشنوق أعلاه .. على حبل القوافي خنت خوفي وارتجافي وارتكبت الصدق كي أكتب شعرا واقترفت الشعر كي اكتب فجرا وتمردت على أنظمة ٍ خرفى.. وحكام ٍ خراف ِ وعلى ذلك.. وقعت اعترافي !
| | ..................................................................................... | |
| | | | |
|
|