بابا عماد حمدي
...............................................................
بقلم د. أيمن محمد الجندى
.............................
| |
كان الناس يعيشون حياتهم حسب المتاح والممكن | |
في اعتقادي أن الدور الذي أداه عماد حمدي في فيلم "أم العروسة" من أجمل أدواره.. ذلك الجو المصري الحميم الذي غزله ببراعة المؤلف عبد الحميد جودة السحار.. التفاصيل الدقيقة لحياة الطبقة الوسطى في حقبة الستينيات.. وذلك الأب التقليدي الذي يحمل فضائل الأسرة المصرية كلها.. قانع بالكفاف، يعمل في وظيفته بإخلاص يندر أن نراه هذه الأيام، ولا يطبق مقولة "على أد فلوسهم"..اهتمامه منحصر في أسرته، كيف ينهض بأبنائه ويهدي الوطن رجالا صالحين ونساء فضليات.. ستر بناته له المرتبة الأولى في سلم اهتماماته حتى لو ركبه الهم الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم إن هناك ذنوبا لا يكفرها سوى هم الأب بعياله.
ومهما قيل أو يقال تبق الأسرة هي لبنة بناء المجتمع منذ عهود سحيقة.. ذلك البناء الذي يوشك أن يتهدم في أيامنا تلك..صارت نسبة الطلاق مرعبة خصوصا في الزيجات الحديثة.. نصفها – تقريبا – ينتهي بالطلاق بكل ما يعنيه هذا من تشرد – معنوي ومادي – للأطفال.. وكسر المرأة التي أخبرنا رسول الإسلام أن كسرها طلاقها، حتى لو كانت مديرة أو وزيرة، لا شيء يعوضها عن دفء بيت وبهجة أطفال يمرحون بين والديهم.
الغلاء المزمن
من منا لم يتذكر والده في ملامح عماد حمدي المهموم بطعام أطفاله وسط غلاء كان يبدو وقتها مرعبا والآن مضحكا!!.. وعادة هذا الجيل في كتابة مصروفاته في دفتر ورقي صغير كمحاولة للترشيد حتى يمر الشهر بسلام دونما حاجة للاقتراض.. وشكوى الزوج المزمن من إسراف الزوجة التي تدعوه لمسك المصروف مكانها ليدرك بنفسه بطولاتها المنسية.. وهكذا تتأرجح سفينة الأسرة في أمواج عاتية لكن ربانها يمسك بالدفة في مهارة واقتدار حتى يصل بها إلى شط الأمان.
وبرغم ضيق الأرزاق تبقى للزوج مكانته وهيبته في نفوس زوجته وأبنائه.. لا شك أن جيل آبائنا كان محظوظا بالتقدير المعنوي الذي يفتقده رجال الجيل الحالي، كل هذا ذكرنا به الفيلم بعد أن كدنا أن ننساه حينما استنوق الجمل وأطلق العنان لزوجته التي صارت تتحمل مسئولية البيت شبه كاملة وتقوم بدوري الرجل والمرأة شاعرة بمرارة لا توصف في الحلوق.
يرسم لنا الفيلم الكثير من التفاصيل.. عماد حمدي يدبر كل قرش من أجل تجهيز ابنته المقبلة على الزواج على نحو لائق مشرف يحفظ لها كرامتها وسط نساء عائلة زوجها المدققات الباحثات عن عيب ما.. أشاهد همه وحيرته وأمسح دمعة وأنا أتذكر أبي.. ألف رحمة ونور عليك وأنت تغالب المرض وتعب الأيام ذاهبا إلى دمياط لتبتاع لابنتك – أختي – أفضل أثاث ممكن مدبرا القرش فوق القرش حتى لو اضطررت لبيع فدان الأرض الذي تملكه وتعتبره ضمانك للأيام.. فرحتك كانت لا توصف حينما حققت الحلم وسترت البنت وأتممت المهمة المقدسة.. لم يكن هذا هو شأن أبي وحده ولكن شأن كل أب مصري يصنع المستحيل من أجل أبنائه.
وقتها كانت فضائل الأسرة المصرية بخير ومنظومة قيمها بعافية.. الحياة تسير بالضروريات دون مبالغة أو تطلع إلى الكماليات، ولم تكن هناك مشكلة لأن الكل كانوا كذلك يقنعون بالمتاح ولا يطالبون آباءهم بما لا يملكونه.. لم تكن قد بدأت بدعة حفلات الزفاف في فنادق الخمس نجوم.. الفرح يقام في بيت العروسة وغالبا ما تكون الشقة المجاورة في استقبال الضيوف في أريحية نادرة..
منظومة قيم الطبقة الوسطى التي تتشارك في الأفراح والأتراح لا كهذه الأيام التي يجهل فيها الجار اسم جاره.. كان هناك الكثير من المرح : الشربات وقطع الجاتوة والراقصة، وبهجة حقيقية لتكوين أسرة ولقاء أحباب.. فرح بكل ما تعنيه الكلمة من معان: زينات معلقة قبلها بأيام وأضواء باهرة ملونة.. وأحلام تستولي على خيال أطفال العائلة بالمرح الرهيب المقبل.. حينما كان للأشياء طعم مختلف.. كانت الشيكولاته حلم مذهل يكمن في ندرتها وإذا فتح بائع الفراولة الصعيدي غطاء سلته الخوص الصغيرة انساب عطر مسكر يعطر الشارع بأكمله.
سر السعادة
كان الناس يعيشون حياتهم حسب المتاح والممكن، ولم تكن الفروق واضحة بين الأسر، ولم يكن التفاخر واردا بل مدعاة للخجل ومحاولة التستر كيلا تؤذي مشاعر جيرانك.. وكان أبي القاضي - مثل معظم رجال الطبقة الوسطى - يستخدم المواصلات العامة دون خجل والسبب بسيط : الكل هكذا.
لحسن حظه مات قبل أن يشهد السعار الاستهلاكي الذي نحياه الآن.
استطاع الغرب أن يقنعنا بضرورة الاستهلاك فنقلنا بالمسطرة طبيعة الحياة الغربية دونما مراعاة أنها لا تلائمنا.. نسينا أن الغرب كان يعمل دائما لمصلحته في كل الأوقات، وما الشعارات البراقة إلا وهم.. حينما كانت أمريكا قارة بكر تحتاج لسواعد رجال أقوياء لم يبالوا باستنزاف أفريقيا من خيرة شبابها حتى لو مات عشرة مقابل كل أسير يخطفونه.. عاشوا عبيدا تحت ضربات سياط وفوهات بنادق حتى اكتشفوا الطاقة البخارية ولم تعد القوة العضلية تعنيهم، وقتها فقط قرروا تحرير العبيد تحت شعارات براقة مضللة..
حتى جاء ذلك اليوم الذي تطورت فيه التكنولوجيا إلى حد تحتم معه الإنتاج بالجملة.. وصار تصريف البضائع أمرا لابد منه بقهر السلاح وغواية الدعاية.. وقتها فقط غازلت الدعاية الأمريكية غرائز الرجل العادي لتقنعه أن الحياة غير ممكنة بدون استهلاك كل هذه السلع الجميلة الملونة.. وما عليك إلا أن تركض طيلة عمرك من أجل شراء هذه الأشياء التي تستحيل الحياة بدونها دون أن يتركوا لك الفرصة لتسأل نفسك : هل تريد هذه الأشياء الاستهلاكية فعلا ؟ وهل اقتناؤنا لها جعلنا أسعد ؟.
والمؤسف أننا تجاوزنا الغرب في الاستهلاك كطبيعة كل المجتمعات غير المنتجة، ولا أفهم لماذا تفضل الحل الصعب المكلف عن الحل الرخيص السهل الذي يحقق لك نفس النفع !!.
والرسالة التي أود أن أنقلها في هذا المقال واضحة صريحة لا تحتمل لبسا.. أنني – وقد عشت عصرين مختلفين – عصر البساطة وعصر التكلف.. لا أشعر بأي فائدة حقيقية من كل هذا الجنون الاستهلاكي الذي يخطف الأبصار لوهلة ثم يتضح أنه بريق زائف.
السعادة خلطة محيرة لا ندري بدقة عناصرها الأساسية.. لكن القناعة والرضا التي شاهدناها في فيلم " أم العروسة " هي أقرب عناصر هذه الكيمياء الجميلة الغامضة التي تدعى السعادة.
06/11/2014