مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 على كورنيش النيل ..الصورة مش ها تطلع حلوة
...............................................................

 بقلم : منى سليم
...................

 

ملك على ضفاف النيل

في قاهرة المعز وعلى صفحة النيل الباهر رأيتها.. فتاة صغيرة لا يتعدى عمرها ثلاثة عشر عاما.. تتوسط حلبة شباب داخل مركب شراعي متهالك تصدر عنهم أبشع الكلمات الغنائية المزعجة، والفتاة تتمايل بشكل فج على هذه النغمات الشاذة، وكلما زادت حركات خصرها فجاجة زاد التصفيق وعلت التعليقات الصفيقة. وعلى مدار نصف ساعة هي مدة الرحلة فعلى هذه الطفلة أن تكتسب خبر التعامل مع التلميحات الخادشة للحياء، وتتعلم مهارة الرد على الاستعارات الخارجة بما يليق معها من عبارات من المفروض ألا تعي معناها في هذه السن الصغيرة.

مضى زمن البراءة

تحدثت معها فحكت دون تردد أو خجل: اسمي هالة.. كنت في المدرسة حتى خامسة ابتدائي، وخرجت لأن أمي زهقت من مصاريف المدرسة، وأنا كمان كنت باسقط كتير، باشتغل الصبح في مجمع تقفيل كارتونات وعلب خضرة وفواكه، وكل الفلوس بتروح لأمي لأن هى كمان بتشتغل في نفس المكان.

سألتها إن كانت أمها توافق على عملها "راقصة" على هذا المركب فقالت دون أن تضايقها الكلمة: أنا مش بس بارقص، كمان باقدم شاي للناس وانادي عليهم عشان يركبوا، وأمي عارفة إني باطلع في الصيف مع واحد شاب جارنا باشتغل معاه على المركب، لكن هي ما تعرفش موضوع الرقص، وأنا كمان ما كنتش أعرف.. لكن أنا عملت كده زى كل البنات اللى على المراكب التانية، والفلوس "البقشيش" اللي باخدها من الزباين باصرفها على نفسي من ورا امي واشتري كل اللي نفسي فيه.

لم أستغرب حين عرفت أن من ضمن الأشياء التي تشتريها هذه الطفلة لنفسها أدوات ماكياج و ملابس ضيقة لا تتناسب مع صغر جسمها و ضآلة خبرتها بالحياة.

إلى حد ما

ومن الطفلة التي فقدت ضفائرها وبراءتها لرجل فوق الستين يحمل كروت شحن موبايل ويمر بها على الوقوف الذين انتشروا على جانبي الكورنيش الممتد، هو رجل تعرف معه كل ما تعنيه كلمة "إلى حد ما"، ملابسه ليست بالرثة لكنها تستره.. إلى حد ما، ينم مظهره عن مستوى مادي لا يوفر له حياة كريمة لكنه يكفي احتياجاته هو ومن يعولهم.. إلى حد ما، حديثه مع الزبائن وأسلوبه بالبيع يعلن أنه جديد بالمهنة لكنه يعرفها.. إلى حد ما، تشعر في عيونه أن كرامته مجروحة لكنه يشعر بالرضا.. إلى حد ما، فهو يعمل عملاً شريفا اضطر لممارسته بعد أن خانه تعليمه وتخلت عنه وظيفته وراتبه الذي قل لأكثر من النصف بحيث أصبح الاستمرار فيها فكرة تفوق أي تصور، وأصبح معها الموت السريع فكرة مناسبة.. إلى حد ما.

وحكى الرجل: أولادي لا يوافقون على عملي الجديد، فغالبا ما ينزلون مع أصدقائهم للتمشية فوق الكورنيش، ويعيبهم أن يروني أمر على الجالسين وأنادي على من يشتري كروت الشحن بعد أن كنت أجلس على مكتب في وزارة بوسط البلد !

وقبل أن أسأله عن المضايقات التي قد يصادفها في عمله الجديد والتي لا تليق بمنصبه السابق أجاب وكأنه يتوقعه: لا أقبل الإهانة من أحد، بل أمارس عملي بحرية لم أجدها فوق كرسي مدير الإدارة، فالحياة هنا مفتوحة.. عملية بيع وشراء محكومة وقوانينها معروفة، لكني في الوظيفة لم أكن أعرف القوانين التي تحكم العمل، فحين وقفت أمام شباك الخزانة أسأل المحاسب في دهشة عن سبب خفض معاشي لأكثر من النصف، لم يجد ما يرد به على أسئلتي، ولا أعرف سبب رفض وكيل الوزارة للتأشيرة على ورقة رسمية تؤكد أني أحمل خبرة كمحاسب لأكثر من خمسة عشر عاما، ولي كثير من الحقوق لدى الوزارة.

لم يلتفت لي أحد من المسئولين، ولم يكلف أحدهم نفسه عناء قراءة تظلماتي الكثيرة، غضبت وصرخت في وجوههم دون جدوى وأخيرا خرجت إلى مكتب محام لرفع دعوى قضائية لن يقل عمرها عن خمس سنوات.

ومضي مسترسلا: ومن مكتب المحامي إلى الشارع.. اشتريت بنصف فلوس المعاش هذه الكروت وجئت إلى هنا، الأسبوع الأول كان صعبا على نفسي، ولكني تحملت لأني لا أجد البديل.. والآن أنا راض إلى حد ما.

ومازالت أمواج الحياة داخل العاصمة تلقي على شطآن نهرها مزيدا من النماذج والأمثلة..

ملك على ضفاف النيل

يحكي أحمد، سائس سيارات في الثانية والعشرين من عمره، عن يومه على كورنيش النيل الذي يبدأ من الخامسة مساء حتى الخامسة فجراً، يعمل خلاله ويأكل وينام ويقابل فتاة يواعدها: أحيانا أشعر وكأني ملك مصر، أعيش على النيل.. أملي تعليماتي على أصحاب السيارات الفاخرة، أحمل عنهم مفاتيح سياراتهم، أحركها للأمام والخلف كما أشاء وأهوى ودون أن يعارضني أحد.

ولكنه سرعان ما يفيق من حالة الرضا التي تنتابه من حين لآخر، ليخلع عنه أوهامه التي تحولت لمسكنات تعينه على تقبل حياته فيرى الوجه الآخر منها، فيتذكر أنه لم يكمل تعليمه لأسباب لا يعرفها، ولم يتعلم حرفة يتكسب منها لقمة عيش حقيقية، حتى فتاته التي يتمنى الزواج منها يعي تماما أن علاقته بها لن تستمر تحت وطأة صوت الكلاكسات الصادرة عن السيارات التي تناديه من كل مكان فيتحرك بينها كبلهوان حزين داخل سيرك.

مين هناك؟

وفي نهاية الجولة لمحت هذا الرجل المتوجس من الجميع.. يجلس على نفس الكرسي لليوم الثالث بين نائم ومستيقظ، ينتظر مرور سيارة المذيع الشهير من بوابة مبنى التليفزيون أمام الكورنيش، عله يسمع مشكلته التي جاءت به من (قسم الشرطة) حيث كان يعمل برتبة شاويش لتلقي به إلى الكورنيش، بعد أن رفض المشاركة في حفل تعذيب جماعي لرجل يقول عنه الضابط أنه سرق هاتفه المحمول.

والنيل ما زال يجري.. وتجري معه أقدار هؤلاء إلى جهة غير معلومة، ولكنها بالتأكيد ناحية لن تصعد بهم لأعلى أو حتى تبقيهم في مكانهم.

 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية