مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 أطفال مصر في بعثة تعليمية بسجون إيطاليا!
...............................................................


بقلم : حسام تمام
...................

أطفال مصر في بعثة تعليمية بسجون إيطاليا!

في نهاية مارس الماضي كنت على مقهى في باريس حين التقيت الصديق التونسي العزيز "أمية الصدّيق"، كنا نتحدث عن أمور كثيرة في ساعات ما قبل السفر، كان صديقي عائدا للتو من إيطاليا وأراد أن يودعني قبل سفري، وكان يقلب في هاتفه النقال حين انتبه وكأنه يتذكر شيئا مهما.. مباشرة قرب لي هاتفه النقال لأشاهد مجموعة صور لأطفال مصريين بعضهم في الثانية عشرة من عمره، استقلوا القوارب هربا من مصر إلى إيطاليا التي تحتجزهم في أحد السجون في لامبادوزا.

كان "أمية الصديق" في مهمة عمل إنسانية في إيطاليا ضمن نشاط فيدرالية التونسيين من أجل مواطنة الضفتين (FTCR) وشبكة (MIGREUROP) لحماية المهاجرين والدفاع عن حقوقهم، وهما منظمتان تتبنيان مقاربة الحق في الانتقال، وكان عمله يوفر له فرصة لقاء المهاجرين الذين وصلوا بطريقة غير شرعية إلى إيطاليا وزيارتهم في المعتقلات وأماكن الاحتجاز، حيث تتحفظ السلطات الإيطالية عليهم، وكانت المفاجأة اكتشافه أن نسبة كبيرة من الهاربين من مصر عبر قوارب "الموت" هم من الأطفال دون سن 18، وأن بعضهم لم يجاوز بعد سن 12 من عمره.

معتقل لامبادوزا
في جزيرة "لامبادوزا" بجنوب إيطاليا يوجد معتقل يحمل الاسم نفسه مخصص للمهاجرين غير الشرعيين، ومعظمهم تقذف به قوارب صغيرة غالبا لا تتمكن من وصول شواطئ الضفة الأخرى من المتوسط، ليس بسبب حرس السواحل الإيطاليين، وإنما لكونها متهالكة ولا تصلح لمثل هذه الأسفار، في هذا المعتقل يقبع مئات المهاجرين الذين لا يحملون أوراقا رسمية، تمهيدا لإعادة ترحيلهم لبلدانهم الأصلية أو نقلهم لمعتقلات أخرى، لكن الظاهرة الجديدة التي تحدث عنها "أميّة الصدّيق" هي أن أعدادا كبيرة من هؤلاء المهاجرين هم أطفال، وأن الغالبية العظمى من هؤلاء الأطفال مصريون.

يحتل المصريون النسبة الأكبر بين الأفارقة في الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وتقدر نسبتهم بنحو 12% من حجم الهجرة، ويشكلون مع عرب شمال إفريقيا نحو 30%، بالتساوي مع دول القرن الإفريقي ودول جنوب إفريقيا (30% لكل منهما) فيما يتبقي نسبة 10% للمهاجرين الآسيويين الهاربين عبر إفريقيا، وتتم معظم محاولات الهجرة إن لم يكن كلها من الشواطئ الليبية.

إلى زمن قريب كانت الهجرات غير الشرعية من مصر قليلة، فالمصريون لا يحبون الهجرة أصلا، فضلا عن أن تكون غير شرعية، وإذا حدثت فهي دائما يقوم بها رجال بالغون بحثا عن فرصة عمل أو حياة أفضل، وكان نادرا أن يكون بها أطفال أو نساء، لكن الجديد الذي عرفته هو التغير الجذري في أعمار المهاجرين المصريين غير الشرعيين وتزايد عدد المهاجرين المصريين دون سن 18 سنة إلى الدرجة التي يصل فيها أعمار بعضهم إلى اثني عشر عاما فقط جازفوا بحياتهم في رحلة غير آمنة بالمرة لعبور البحر المتوسط إلى أوروبا فرارا من حياتهم البائسة في مصر.

وبمجرد وصول المهاجرين غير الشرعيين تقوم شرطة السواحل الإيطالية باحتجازهم في مقرات اعتقال لبحث وضعيتهم، في الأغلب يتم إعادة ترحيلهم لبلدانهم، ولكن في الحالات التي يقدم أصحابها أدلة على خطورة وضعيتها في بلدانها الأصلية يتم نقل أصحابها إلى معتقلات أخرى لحين البت في طلبات لجوئهم السياسي، وفي كل الأحوال يكون المشكل مع المهاجرين دون سن الثامنة عشرة، حيث يمنع القانون الإيطالي ترحيلهم، وفي هذه الحال يتم نقلهم إلى مراكز رعاية أطفال لحين إتمام السن القانونية .

بامبينو!
الطريف أن الأطفال المصريين الهاربين من مصر يعرفون هذا بدقة، ويعرفون أن فرصتهم في البقاء في أوروبا ستكون مؤكدة مقارنة بالكبار، وأن القانون الإيطالي لن يسمح بترحيلهم؛ لذلك تكون مغامرتهم بركوب البحر وعبور المتوسط أكثر، ويشير إلى أن الأطفال المصريين بمجرد أن يقعوا في أيدي حرس السواحل الإيطالي لا يقولون إلا كلمة واحدة: بامبينو Bambino وهي الكلمة الوحيدة التي يعرفونها من الإيطالية وتعني: أنا طفل!

ويروي صديقنا "أمية الصديق" كيف أن رجال الشرطة الإيطالية صاروا يضحكون من "مكر" هؤلاء الذين لا يحملون من الأوراق أو المعلومات إلا هذه الكلمة التي تحفظ لهم حق البقاء دون الترحيل، فيما يضطر مواطنوهم الكبار إلى إنكار كونهم مصريين ويصرّون على تقديم أنفسهم كفلسطينيين هاربين من الحصار الإسرائيلي لغزة.

والأغلب أن بعضا من عائلات هؤلاء الأطفال تعرف بالأمر وأنها ربما شاركت في الترتيب لهروبهم، طلبا لفرص أفضل في العمل أو على الأقل التعليم؛ حيث يقضي القانون بإدخال هؤلاء الأطفال في برنامج لتأهيلهم للإدماج ضمن المدارس ومؤسسات التعليم، ويؤكد هذا أن هؤلاء الأطفال بعد أن اطمئنوا لصديقنا أمية كعربي ويعمل في منظمة لحماية حقوقهم كلاجئين طلبوا منه أن يتصلوا من هاتفه النقال بأسرهم لكي يطمئنوا عليهم، وبعضهم أعطاه البريد الإلكتروني لأقاربه ليرسل لهم رسائل تطمئنهم، والأطرف أنهم بعد أن التقطوا معه الصور طلبوا منه أن يصورهم مع شخص إيطالي وفضلوا أن يكون فتاة أو امرأة وأن يتكرم بإرسال الصور إلى أهليهم في مصر!

يحكي لي أمية الصديق أن الأطفال المصريين يرفضون أي كلام مع شخص رسمي، ويتمسكون بكلمة بامبينو بامبينو (أنا طفل أنا طفل) حتى يتم ترحليهم إلى مراكز استقبال الأطفال، بعضهم يبقى فيها بالفعل وبعضهم يهرب إلى أقارب أو معارف له في إيطاليا يحتفظ بعناوينهم أو بيانات التواصل معهم، فيما يهرب آخرون إلى الشارع!
 

أطفال مصر في بعثة تعليمية بسجون إيطاليا!

وطأة الاستغلال
المخيف فيما يرويه صديقنا أن كثيرا من مراكز الاستقبال الإيطالية، والتي يتمركز معظمها في جزيرة سيسليا لا تنطبق عليها المواصفات اللازمة لاستقبال الأطفال ورعايتهم، وأنها في أغلب الأحوال ليست سوى مراكز وهمية أسسها إيطاليون للحصول على جزء من التمويل الضخم الذي رصدته الحكومة الإيطالية والاتحاد الأوروبي لتأسيس مراكز رعاية المهاجرين، وهو ما يدفع بكثير من الأطفال إلى تركها والهرب ولو إلى الشارع.

كثير من الأطفال الذين هربوا من مراكز الاستقبال اتجهوا للعمل في مهن متدنية، وبعضهم صار يعمل في الفلاحة بأجور متدنية لا تكاد تصل لربع الأجر الطبيعي، كما يؤكد أن تقارير عدة رصدت تعرض هؤلاء الأطفال لمعاناة كبيرة، حيث وقع كثير منهم في شبكات الإجرام والسرقة وتجارة الأطفال، ولا يستبعد أن يكونوا ضحية لتجارة الأطفال التي تسيطر عليها مافيا كبيرة في أوروبا، خاصة من دول البلقان.

الأطفال الذين جازفوا بالهرب عبر قوارب الموت يأتون من مدن متفرقة من مصر، وخاصة الدلتا، معظمهم من أسر فقيرة جدا ما اضطرهم لترك الدراسة والبحث عن عمل، وغالبيتهم يأتون في مجموعات تعرف بعضها من خلال القرابة أو الجوار، ثم يخوضون غمار البحر في رحلة بالغة الخطورة تستغرق في العادة يومين، ولكن قد تزيد إلى خمسة أيام مع سوء الأحوال الجوية، وكثيرا ما يكون هناك شاب أكبر منهم عمرا يكون مسئولا عنهم، والأرجح أن يكون هذا الشاب دائما مرتبطا بمافيا الهجرة غير الشرعية.

وتتزايد نسبة المصريين الذين يقودون قوارب الهجرة غير الشرعية حتى تلك التي لا تحمل مصريين، كثير منهم بحارة محترفون، وبعضهم يقود الرحلة مقابل أن يهاجروا مجانا وبدون مقابل!

حين كان أمية الصديق يحكي لي كانت بعض الصحف اليسارية تنشر على استحياء خبر غرق ثلاث قوارب مقابل الساحل الليبي على متنها قرابة الخمسمائة مهاجر ولم يتمكن حرس السواحل الإيطالي من إنقاذ سوى 21 منهم، وكان معظم الغرقى مصريين!

امتنعت معظم الصحافة ووسائل الإعلام الغربية عن تغطية الكارثة الإنسانية ومن نشر الخبر اكتفي بوضعه في صفحات داخلية وعلى استحياء، فالنخبة السياسية الأوروبية لا تفضل الاهتمام بهذه القضية هروبا من تحمل المسئولية الأخلاقية عن تزايد غرقى وضحايا محاولات الهجرة غير الشرعية بعد تشديد الحصار الأوروبي على الشواطئ.

أكثر من ذلك أن بعض السياسيين الإيطاليين لا يرى بأسا في موت هؤلاء المهاجرين؛ لأن من شأن ذلك أن يردع غيرهم عن محاولة التسلل إلى أوربا.. بالنسبة لهؤلاء وأمثالهم فإن حرية التنقل التي تعنيها العولمة هي خاصة بالبضائع ليس البشر، من ثم فإن انتقال البطاطس من مصر إلى إيطاليا أسهل من انتقال البشر وأفضل.

مأساة مصرية
كنت أغادر باريس إلى مدينة ليون حين سمعت هذه القصة.. قضيت يومين أغالب حزني أو أتشاغل عنه، وكان أول ما فعلته في إجازة نهاية الأسبوع التي قضيتها في مدينة لوزان السويسرية أن سجلت كل ما سمعته وأرسلته لصحيفة "البديل" اليومية في مصر، كنت أعلم أن "البديل" بتوجهاتها اليسارية ستهتم بالموضوع، كان أحمد الدريني رئيسا لقسم التحقيقات، وكان خالد البلشي رئيسا للتحرير، وكلاهما صنف من الصحفيين مازالت الإنسانية تجري في عروقه، وكانا عند ظني بهما، فأفردا للموضوع صفحة الجريدة الأولى تتصدره صور أطفال مصريين في معتقل لامبادوزا.

ساعات من نشر الخبر وانهالت عليّ الاتصالات وأنا في لوزان، صحف وقنوات فضائية وبعض الحقوقيين، أحلتهم إلى أمية الصدّيق باعتباره صاحب الموضوع وأفضل من يتكلم فيه، ولما تعذر وصولهم له لم يكن بدا من أكون ضيفا عبر الهاتف على بعض المحطات الفضائية، كان برنامج "الحياة اليوم" بقناة الحياة المصرية أكثر من اهتم للقضية.. تحدثت إليهم هاتفيا وكان معنا في الحلقة الوزيرة مشيرة خطاب والسفير المصري في روما، ودار حوار طويل حول أطفالنا الذين هربوا من مصر باختيارهم، ولكن لم يعد بالإمكان استعادتهم.

للوهلة الأولى أسعدني هذا الاهتمام، أسعدني الاهتمام بما نشرت وشعرت أن هناك فائدة لما نكتب، وأسعدني ما بدا لي من أن مصر مازالت تتمسك بالحياة رغم قسوة ما تعيشه، وأنها تتمرد على أن تموت فيها المشاعر أو تتبلد، لكن لم تدم سعادتي طويلا؛ فقط يومان ولما رجعت إليها وجدت أن القضية التي بدأت كقضية وطنية ماتت كما تموت قضايا أخرى كثيرة.
 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية