مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 يا ابنتي‏..‏ هذا هو جمال عبدالناصر
...............................................................

 

عادل حمودة

 

بقلم : عادل حمودة
....................

ابنتي معلقة تسألني عنه‏..‏ تسألني كيف أصبح عطرا لزهرة علي صدر حورية تبحث عن الحرية؟‏..‏ ما الذي فعله حتي ينبت مثل عشب أخضر علي دفاتر الأيام؟‏..‏ لماذا ترك الحرير ومشي علي الأشواك والآلام؟‏..‏ من الذي انتصر في المعارك التي خاضها ضد الأصنام؟‏..‏ وهل بعده أغلقت حديقة الأحلام؟‏..‏ابنتي تسألني عنه‏..‏ تسألني لماذا كان شفاها للذين ليس لهم شفاه؟‏..‏ لماذا كان عينا للذين ليس لهم عيون‏..‏ لماذا كان كتابا مفتوحا كالبحر للذين لايقرأون؟‏..‏ لماذا كان غطاء عريضا كالسماء للذين يبردون ويرتعشون؟‏.‏

ابنتي تسألني عن جمال عبدالناصر‏.‏

جيل جديد غير مشبع بالعقد النفسية والسياسية‏..‏ ليس طرفا في حسابات ولا مغامرات قديمة وربما وهمية‏..‏ يسأل عن رجل أجبر التاريخ علي التوقف عنده‏..‏ لماذا تحول بعض الثوار بعده إلي تجار‏..‏؟

جيل جديد مسلح بفضيلة السؤال‏..‏ يرفض الاقامة في وطن كالضريح‏..‏ ولايقنع إلا بالحوار الصريح‏..‏ لايسكره حلو الكلام‏..‏ ولا الكتابة الكاذبة ولو علي رخام‏..‏ ومهما تكن الأقنعة فهو قادر علي كشف اللئام‏.‏

والمثير للدهشة أن رغبة ابنتي في أن تعرف عنه تأتي في وقت اختاره العالم فيه واحدا من زعماء القرن العشرين‏..‏ وفي وقت بدأت كتابات كثيرة في الغرب تعيد اكتشافه‏..‏ وتعيد التذكير بقصة حياته‏..‏ والتفتيش فيها عن التفاصيل والمشاهد الانسانية الصغيرة التي هي مفاتيح لمعرفة الشخصيات العظيمة‏.‏

يا بنتي‏..‏ جمال عبدالناصر فلاح مصري من أسرة متواضعة ضاربة في الصعيد‏..‏ تملك مالا قليلا وشرفا عريضا‏..‏ لم تعرف الهروب في زمن كان يتسم بالفضيحة والذنوب‏..‏ عرفت قيمة الكرامة والثقافة فتعلم والده عبدالناصر حسين في إحدي مدارس الارساليات في مدينة أسيوط‏..‏ وبعد الانتهاء من الدراسة عين موظفا في مصلحة البريد‏..‏ في مدينة الاسكندرية بمرتب ثمانية جنيهات‏.‏

في الاسكندرية تزوج الأب من ابنة تاجر فخم هي فهيمة محمد حماد‏..‏ وفي‏25‏ يناير‏1927‏ ولد جمال عبدالناصر‏..‏ بالضبط‏..‏ بالضبط منذ‏83‏ سنة‏..‏ وعندما أبرق الأب إلي أسرته في قرية بني مر‏(4‏ كيلو مترات من أسيوط‏)‏ يبشرهم بالخبر قام أحد أقاربه بتسجيل المولود مرة أخري في سجل مواليد القرية‏.‏

كان جمال عبدالناصر في الثالثة من عمره عندما نقل والده من الاسكندرية إلي أسيوط‏..‏ وأتاح ذلك للفتي الصغيرأن يعيش وسط عائلته وقريته التي ظل فيها حتي دخل المدرسة الابتدائية‏..‏ ولأن الأب كان دائم التنقل فقد اقترح عليه شقيقه خليل ــ الذي كان مقيما في القاهرة ــ أن يعيش جمال معه حتي يكمل دراسته‏..‏ وهكذا وصل جمال القاهرة في صيف‏1925‏ ليقيم مع عمه الذي لم ينجب أطفالا وإن كان يربي ابنه بالتبني محمود الذي استشهد والده في ثورة‏1919‏ وكان عمر جمال وقت أن نزل القاهرة‏8‏ سنوات‏.‏

بيت عمه خليل الذي تربي فيه كان يقع في حي النحاسين‏..‏ حي الحرف والصناع المهرة القريب من الصاغة والموسكي والغورية والعطارين والأزهر والحسين‏..‏ إن عين الصبي الصغير التي انتقلت من الاسكندرية حيث الأمطار إلي الصعيد‏,‏ حيث الغبار إلي أحياء القاهرة القديمة والمتواضعة حيث الأخيار جعلته يحتضن الوطن ويعرف مناطق الاحساس التي تؤثر في غالبية الناس‏..‏ وهو ماجعله ينحاز للغالبية العظمي التي تسكن هذا الوطن‏..‏ الغالبية الصامتة‏..‏ الساكتة‏..‏ الصابرة‏..‏
ولعل أول حادث أيقظ مشاعره الوطنية وقع أمامه في تلك الأيام‏..‏ كان حادث مقتل فتاة صغيرة تحت عجلات سيارة جيب عسكرية يقودها جندي بريطاني ممن يحتلون مصر بدعوي المساهمة في إعادة المدينة إلي أهلها‏..‏ داس الجندي المتهور جسد الفتاة بسيارته وواصل السير دون أن يري مبررا يدعوه للتوقف‏.‏

قال له عمه خليل بعد أن سمع منه تفاصيل الحادث‏:‏ سنظل نعيش في هذا الذل إلي أن يظهر بيننا رجل يخلصنا من الاحتلال البغيض‏..‏ لكن أغلب الظن أن جمال عبدالناصر لم يتخيل نفسه ذلك المسيح المخلص‏.‏ لم يتخيل نفسه طاقة النور الذي ستبدد فيما بعد الكثير من الظلام‏..‏
في تلك الليلة لم ينم بسهولة‏..‏ وأحس بسحابة سوداء قاتمة من الأحزان تخيم علي مشاعره‏..‏ وهي سحابة تقبض روحه كانت تطارده كلما أحس بالوحدة أو بعدم القدرة علي تنفيذ أمر ما يشغله‏.‏

وأغلب الظن أنه كان صبيا منطويا علي نفسه‏..‏ قليل الاختلاط بغيره‏..‏ ولعله كان يشعر بالغربة بعيدا عن والديه‏..‏ وكان يسرح طويلا في تأمل أبسط الأشياء‏..‏ في ذلك الوقت سأل أباه ذات مرة‏:‏ لماذا تأكل اللحم والفلاح الذي يربي الغنم والأبقار لايأكلها؟‏..‏ ولم يجد الأب ما يرد به علي هذا السؤال الصعب سوي العبارة التي يرددها المصريون عادة‏:‏ هذه مشيئة الله‏..‏ لكن الصبي لم يقتنع بالإجابة في سنة‏1926‏ ماتت أمه‏..‏ وفيما بعد قال‏:‏ إن موت أمه كان ضربة قاصمة تركت بصماتها التي لا تمحي‏..‏ وبعد حزن وزهد استمر سبع سنوات تزوج الأب من السيدة عنايات مصطفي في مدينة السويس‏..‏ كان جمال وقتها طالبا في المدرسة الثانوية‏..‏ في القاهرة‏..‏ ولأنه بدأ يتفتح علي اشياء مثيرة تكون وعيه العام فقد قلل من زيارته لوالده‏..‏ ويبدو أن ذلك عرضه لبعض اللوم من زوجة أبيه وكان أن بدأ جو الأسرة يتوتر‏.‏

كان قد جاء إلي القاهرة لاستكمال دراسته الثانوية بعد أن بدأها في الإسكندرية في مدرسة رأس التين الثانوية القريبة من المقر الصيفي للملك‏..‏ أما السبب فهو أنه اشترك في مظاهرة ضد الانجليز وقبض عليه وفي سيارة البوليس سأل جاره‏:‏ من الذي نظم المظاهرة ؟‏..‏ وعرف أنهم أعضاء من حزب مصر الفتاة‏..‏ وقبل أن يفرج عنه طلب مأمور القسم من والده إن يؤنبه بعنف أمام الآخرين‏..‏ لكن الأب رفض أن يكسر روحه ويهشمها واكتفي بأن أجبره علي ترك الإسكندرية ومواصلة دراسته في القاهرة التي كان الأب قد نقل إليها وشغل فيها وظيفة رئيس مكتب بريد الموسكي‏..‏ وبالفعل عاش جمال عبد الناصر مع أسرته في حارة خميس عدس القريبة من حارة اليهود والتحق بمدرسة النهضة بالفجالة‏.‏

في عام‏1935‏ حرض جمال عبد الناصر زملاءه في مدرسة النهضة علي الخروج في مظاهرة اتجهت إلي الجامعة لتأييد طلبتها المعتصمين داخلها‏..‏ وعندما تدخلت قوات الأمن وقوات الاحتلال لتطويق المظاهرة نجح في الإفلات من الحصار مع مجموعة كبيرة من المتظاهرين واتجهوا إلي بيت الأمة ليستمعوا إلي بيان سيلقيه مصطفي النحاس‏..‏ وانتهي اليوم باعتقاله‏..‏ وبصعوبة شديدة نجح والده في الإفراج عنه ليدخل امتحان الثانوية العامة‏..‏ وبعد أن حصل عليها تقدم للالتحاق بالمدرسة الحربية‏..‏ لكن طلبه رفض لأكثر من سبب كان وجيها في ذلك الوقت‏..‏ أنه من أسرة متواضعة‏..‏ والده مجرد موظف في البوستة‏..‏ ليس في عائلته ضباط‏..‏ وسبق أن شارك في الحركة الوطنية واعتقل‏.‏

بواسطة صديق عمه خليل‏..‏ اللواء إبراهيم خيري باشا سكرتير المدرسة الحربية دخل جمال عبد الناصر المدرسة الحربية في‏17‏ مارس‏1937..‏ وأصبح اسم التدليل بالنسبة له بين رفاقه هو جيمي‏..‏ أما عبد الحكيم عامر الذي دخل المدرسة الحربية بعده بدفعة واحدة فكانوا يسمونه روبنسون نسبة إلي روبنسون كروزو ـ الشخصية الأسطورية المغامرة ـ لميله الفطري إلي المغامرات الصغيرة‏.‏

تخرج ضابطا في عام‏1938‏ ونقل للخدمة في الخرطوم ـ في وقت كانت فيه مصر والسودان تحت حكم تاج واحد هو التاج المصري ـ وانضم إليه هناك عبد الحكيم عامر وكان أن ولدت بينهما صداقة متينة شاءت طبيعة الأحداث أن تبترها بعد ما جري في يونيو‏1967.‏

بعد عودته من الخرطوم قرر الزواج‏..‏ ولم يتردد في أن يتقدم إلي صديقه صاحب مصنع السجاد اليدوي عبد الحميد كاظم لطلب يد شقيقته الوديعة المحافظة تحية‏..‏ قال الشقيق بصراحة‏:‏ إنني اعتقد أن تحية لا ترغب في الزواج من ضابط‏..‏ رد جمال عبد الناصر عليه‏:‏ اسألها‏..‏ وبعد شهرين من الخطبة كان الزفاف‏..‏ كانت هديته الأولي لها جهاز فونوغراف ومجموعة أسطوانات عليها موسيقي سيد درويش وأم كلثوم‏..‏ واستأجر فيلا في منطقة منشية البكري بضاحية مصر الجديدة ليعيش فيها مع زوجته وأولاده الذين أنجبهم فيما بعد‏..‏ وقد بقي في هذه الفيلا بعد أن حكم مصر وإلي أن مات‏..‏ فكان أول حاكم مصري لا يملك بيته‏..‏ بل إن الفراش الذي كان ينام عليه كان عهدة ردت بعد رحيله إلي إدارة الأشغال العسكرية‏.‏

واشتري سيارة أوستن سوداء كان يطوف بها علي أعضاء تنظيم الضباط الأحرار الذي كونه بعد عودته من الخرطوم‏,‏ وكان التنظيم يضم ضباطا من مختلف التيارات السياسية التي انتمي إليها هو نفسه بصورة أو بأخري‏..‏ من الشيوعيين إلي الإخوان المسلمين‏.‏

وجاءت حرب فلسطين‏..‏ جاءت لتكون إحدي العلامات البارزة في تحولاته‏..‏ كان برتبة صاغ‏(‏ رائد‏)‏ عندما انضم إلي القوات المصرية التي ذهبت في‏16‏ مايو سنة‏1948‏ في حملة القتال في الأرض المقدسة‏..‏ وقد قال فيما بعد عبارة شهيرة ترددت كثيرا فيما بعد‏..‏ كنا نحارب في فلسطين ولكن أحلامنا كلها كانت في مصر‏..‏ وقال أيضا‏:‏ كان رصاصنا يتجه إلي العدو الرابض أمامنا في خنادقه ولكن قلوبنا كانت تحوم حول وطننا البعيد الذي تركناه ترعاه الذئاب‏..‏ وفي فلسطين اكتشف كذلك صدق مقولة الفدائي العنيد أحمد عبد العزيز قبل استشهاده هناك‏:‏ إن ميدان الجهاد الأكبر هو في مصر‏.‏

كان المشهد الأول الذي وقعت عليه عيناه وهو ينضم إلي الكتيبة السادسة مشاة في الفالوجا هو مشهد ضابط الاستقبال الذي كان عليه توصيله من محطة قطار العريش إلي الفالوجا‏..‏ كان الضابط يرتدي زيا مكرمشا وكان يطلق لحيته وكانت رائحة العرق تفوح منه كما أنه لم يقص شعره منذ وقت طويل‏..‏ وعندما سأله جمال عبد الناصر عن السبب قال له‏:‏ إننا نعيش ظروفا بالغة القسوة‏..‏ المياه لا تكفينا‏..‏ وسبل الاتصال مقطوعة‏..‏ بينما نضطر إلي صد هجمات اليهود التي لا تتوقف‏..‏ كثيرون منا لم يذوقوا طعم النوم لعدة ليال متتالية‏..‏ لقد كنت مضطرا للسفر طيلة الليل متجاوزا الطرق التي قطعها العدو حتي أتمكن من استقبالك‏..‏ وسأله عبد الناصر‏:‏ هل تناولت إفطارك ؟‏..‏ فرد الضابط بالنفي‏..‏ فناوله ما يحمله من طعام كانت زوجته قد أعدته له ليتناوله في الطريق‏.‏

بعد الحرب بدأ جمال عبد الناصر في عام‏1950‏ إعادة تنظيم الضباط الأحرار علي أسس وطنية لا عقائدية‏..‏ فالكل يريد مصلحة الوطن مهما اختلفت الرؤية والوسيلة‏..‏ وفي صباح يوم‏23‏ يوليو‏1952‏ استولي التنظيم علي السلطة في مصر‏..‏ لم تكن الخطة قوية بقدر ما كان النظام هشا وضعيفا وكأنه كان نظامام من كرتون‏..‏ إن الشعب المصري المقهور المكسور أيد الثورة بكل ما يملك من جوارح ومصالح‏..‏ إن صمته لم يكن قبولا ولا موافقة‏..‏ صمته كان تعبيرا عن صبره‏..‏ لذلك كان الاجتياح عارما‏.‏

خاض جمال عبد الناصر كل معاركه علي أعصابه‏..‏ كان يعرف أن العدو الأخطر في الداخل‏..‏ تحت الجلد‏..‏ ينخر كالسوس في العظام تمهيدا لدخول العدو الواضح في الخارج‏..‏ والمستعد للغزو والسيطرة‏..‏ مرة بالجيوش‏..‏ ومرة بالفلوس‏..‏ ودائما بالعملاء‏.‏

معارك قاصمة خاضها هذا العملاق الأسمر المنحوت من طمي النيل حتي وجد نفسه حزينا‏..‏ فمات بالسكتة السياسية قبل أن يموت بالسكتة القلبية‏..‏ ولم يهدأ الأعداء بموته‏..‏ فقد راحوا يمثلون بسمعته‏..‏ وبدأت عملية الاغتيال الثاني له‏..‏ الاغتيال المعنوي لإزالة كل ما آمن به‏..‏ وما سعي جاهدا لتحقيقه‏..‏ ومنذ أن توفي في‏28‏ سبتمبر‏1970‏ وحتي الآن ومحاولات تحطيم شخصته مستمرة‏..‏ فالزهور التي تنبت في الصخور يجب أن تسحق كاملة‏.‏
هذا هو يا ابنتي جمال عبد الناصر‏!‏


06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية