مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 بطون جاعت ثم شبعت
...............................................................

 

الجوع كافر

 

سماك العبوشي
...................

لطالما كان يردد أبي "رحمه الله" على مسامعي مذ كنت طفلاً صغيراً فصبياً يافعاً معلومة مفادها أن البشر صنفان متناقضان لا يلتقيان، صنف يعمل بخطين متوازيين، خط لدنياه وكأنه سيعيش أبد الدهر، وخط بذات الوقت لآخرته وكأنها آخر لحظات رحلته فيها، ولا غبار من أن نرى أسماء هؤلاء وقد كتبت بأحرف من نور، فيما صنف آخر من البشر قد ارتأى أن يركن ضميره جانباً لقلة إيمان في نفسه، فتراه وقد تملكته بروق المطامع، وإيمانه دنيوي الطبع والتطبع يتمثل بما يجنيه ويستحوذه في حياته، حلالاً كان أم حراماً!!.

لذا، فإنني كثيراً ما كنت أرقب أبي، فلم أدرك سبب يأسه وامتعاضه المزمن من جـُلّ أوضاعنا، فكنت أستكثر ما به من يأس وقنوط برغم ما كنت أراه – بحكم الطفولة البريئة - من بهجة الدنيا وكثرة لعبها ولهوها ومرحها، فكنت أسائل نفسي دوماً ... ما الذي ألمّ بأبي!؟، ما به مغتماً حزيناً هكذا!؟، لـِمَ الفرح قد تخاصم وإياه!؟، ما الذي يزعجه ويقضّ له مضجعه!؟، ولم أفطن إلى حقيقة صنفـَيّ البشر اللذين طالما حدثني أبي عنهما، وما كنت بعد قد أدركت أن ما عناه أبي بحديثه وتصنيفه ذاك إنما كان ينطبق بالضرورة والواقع على الولاة ورعاة الأمر وأصحاب الحل والربط أولاً، ولعل عدم فطنتي لتلك الحقيقة كان مردها تلك الصورة الزاهية البهية الجميلة التي طبعت بذهني وتملكت عقلي لكثرة ما قرأت من مجد الفتوحات الإسلامية ومواقف عادلة حاسمة نابعة من قوة الإيمان ونكران ذات ولاة الأمر ورعاة الشأن وأصحاب الحل والربط والتي قد ابتدأت بالرسول محمد "صلى الله عليه وسلم" مروراً بالخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي "رضوان الله عليهم أجمعين"، ومن تبعهم وحاكى فعلهم واقتفى أثرهم من رعاة أمر، فحققوا بتلك الصورة الزاهية المشرقة مجد الأمة ورفعتها وسدادها!!.

وكبرت، فعرّكتني الحياة ومصائبها، وكنت في كل مرة ألجأ فيها لذاك الحلم الجميل يوم كنا بقوة الإيمان والعدل أسياد هذه الأرض، لأفيق بعدها فزعاً هـَلـِعاً لشدة وطأة واقعنا المزري، فأتذكر مشهد أبي وحالة يأسه وقنوطه، فأجلس مع متسائلاً عن الأسباب التي أضعنا بها مجدنا وعزنا وافتقدنا كرامتنا حتى صرنا من أكثر شعوب الأرض ذلاً ومهانة!!.
ليحاسبني الله سبحانه وتعالى لو أنني نطقت بغير الحقيقة، لينزل بي غضبه سبحانه وتعالى لو أنني جادلت أو كتبت يوماً فأظهرت خلاف تلك الحقيقة التي تعلمت نصفها من أبي في حياته، وتعلمت نصفها الآخر بعدما عـَرّكتني الحياة، تلك الحقيقة التي ألبستني – رغم أنفي- ما كان قد تلبس أبي في حياته من صور الهمّ والغـَمّ واليأس والقنوط حينما أدركت النصف الآخر من الحقيقة بأن صِنفيّ البشر في الحياة إنما ينطبق أولاً على ساستنا وولاة أمرنا ورعاة شأننا، وأن ما أصاب أبي من يأس أولاً وما ظهر عليّ من بعده ثانياً إنما كان مرده ذاك البون الشاسع بين ولاة الأمر وأصحاب الشأن والقرار من السلف الصالح وبين "بعض" ولاة الأمر وأصحاب الشأن والقرار اليوم، فـَهـَمّ ولاة الشأن من السلف الصالح كان محصوراً بكيفية زيادة رفعة الأمة والمحافظة على مجدها وديمومة كرامتها وعزِّها، على نقيض "بعض" ولاة الأمر وأصحاب الحل والربط اليوم، فـَهـَمّ هؤلاء محصور بالحياة الدنيا وما يجنونه منها دونما تذكر منهم واهتمام لحساب الآخرة، ولا تفسيرهم لمفردتي "المجد والخلود" إلا ما يتعلق الأمر بالاستئثار بـ "مجد" السلطة و"خلود" المال واكتنازه و"كثرة" الجاه و"ديمومة" النفوذ والسطوة، ولا غرو لو قيل بالأمثال: "صنفان من الأمة إذا صلحا صلح الناس : الأمراء والفقهاء"!!.

تلك هي الحقيقة المجردة، صنف من أولي الأمر وأصحاب الشأن والربط يـَقـِظـَة ٌضمائرُهم، يستشعرون مسؤولياتهم أمام الله وأمام أبناء أمتهم صباح مساء، فكان أن تحاشاهم الشيطان ويئس من زلتهم وهفواتهم كالفاروق عمر "رضي الله عنه وأرضاه" الذي وصفه الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم" يوماً فقال له " إيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً قط إلا سلك فجاً غير فجك"، وصنف آخر من رعاة الأمر وأصحاب الشأن والربط والحل من الذين نامت ضمائرهم وتسربلوا بغيهم وطغيانهم وانحرافهم فزيّن لهم الشيطان سوءة أفعالهم، فامتلأت بطونهم بالسُحـْت الحرام بعدما أضاعوا شعبهم وفرّطوا بحقوقه وثوابته، فخسروا بالتالي آخرتهم، وسيسجلون في مزابل التاريخ!!.
تلك هي حقيقة تاريخنا المجيد مجردة متمثلة بأروع تصوير بورع الراعي الفاروق عمر وزهده عن طمع الدنيا ومكاسبها وامتيازاتها، فكان أن تحقق على يديه البرّتين فتح بلاد فارس والروم ونشر العدل وحافظ على الأمانة لينام بعدها في ظل شجرة متوسداً خفيّه آمناً مطمئناً بنقاء سريرة ويقظة ضمير وليذهب بحقه مثلاً عبر التاريخ قد قيل فيه "عدلت فأمنت فنمت"، وتلك هي حقيقة الراعي لرعيته الفاروق عمر الحافظ لشأنهم المواظب على راحتهم وأمنهم وكرامتهم، الواثق المطمئن لما أنجزه فوقف ذات يوم مخاطباً أبناء رعيته من على المنبر قائلاً: " إذا أصبت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني"، وتلك هي الحقيقة التي أفرحته وأدخلت السكينة إلى روعه من فطنة رعيته وشدة حسابهم له لو أخطأ حينما سمعها من لسان أحد رعيته حين انبري له مجيباً دونما خوف ولا وجل: " والله لو أخطأت لقوّمناك بسيوفنا هذه"... فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم!!.

تلك هي الحقيقة المجردة باختلاف مشهدين متناقضين، مشهد ساد أجدادنا ونالوا رفعة وعزاً يوم تبوأ قيادتهم خيار قومهم وأكثرهم عطاءً وبذلاً وورعاً ونكراناً للذات لقوة إيمانهم أولاً وخشية من الله تعالى ثانياً، ومشهد تاه أحفادهم حين ضاعت حقوقهم وثوابتهم يوم تسيـّدهم من لا يخاف الله ولا يؤمن بيوم حساب قريب هو ملاقيه لا محالة، وهذه هي حقيقة أوضاعنا ومآسينا ونكباتنا، والتي ابتدأت يوم تسيد علينا من يتحكمه منطق "أنا وأسرتي أولاً وليأتي من بعدنا الطوفان"، فكان بعدها الفساد والإفساد وقلة الذمة وسبات الضمير والجوع المزمن الأزلي للسلطة والجاه والتوريث للأبناء بغير وجه حق، والطامة الكبرى تكمن في بطون بعض ولاة أمر قد جاعت ثم شبعت وانحرفت واستبدت فطغت فباعت ضمائرها!!، ألا تـُعـْسا لبطون ولاة أمر اتخمت فعميت أبصارهم عن كل ما هو حق فباتوا لا يتحسسون ألام أبناء شعبهم، وفي ذاك يقول الإمام علي "كرم الله وجهه": " اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت فان الخير فيها باق ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت فان الشح فيها باق"!!.

مسك الختام ما جاء بمحكم آيات الله تعالى:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى"... ( المائدة: 8).
"وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ"... (غافر: 18).
"يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ "... (التغابن: 9).
ولنا لقاء آخر بإذن الله تعالى، إن كان للعمر بقية أولاً، ومادامت أوضاعنا تسير من سيء إلى أسوأ ثانياً!!.
وبانتظار ما سيرد به المتربصون الذين لا يفقهون ما سيقرأون ... ثم يناكفون كعادتهم!!.

simakali@yahoo.com
21 / 10 / 2010
 


06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية