مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 لا كرامة مع الفقر
...............................................................

د. حسن حنفي

د. حسن حنفي
................


هؤلاء رعاياك يا مولاي"! هذه صيحة أطلقها العقاد النائب الوفدي تحت قبة البرلمان في مصر قبل ثورة يوليو 1952 لعرض حال الفقراء في مصر للملك، سلطة وثراء واستراحات وتلاعب بالأموال واعتماد على الإقطاع. وقد أصبحت هذه الصرخة جزءاً من تاريخ مصر النضالي الشعبي من خلال ممثليه للدفاع عن الشعب وطبقاته الكادحة.

اختفت هذه الصيحة اليوم وحل محلها على لسان الشعب نفسه وفقرائه استعطاف واستجداء "كل سنة وأنت طيب" في هذه الأيام، بعد انقضاء شهر رمضان، شهر الصوم والعبادة. وكنت تسمعها خاصة في الأسبوع الأخير منه وعلى أبواب عيد الفطر المبارك في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل التفاتة وفي كل تعامل مع الجمهور، في الشارع أو في المواصلات أو في المكاتب الرسمية للدولة من صغار الموظفين.

صحيح أن الفرح بنهاية شهر الصوم وبداية عيد الفطر طبيعي، وصحيح أن الفرح بالأعياد مثل الحزن على الأموات جزء من الشخصية المصرية منذ قدماء المصريين. فمصر بلد الخير والوفرة، بالدقيق والسمن والسكر في كعك "العيد الصغير"، واللحم والدهن في "العيد الكبير". والملابس الجديدة واللعب والبهجة للأطفال في كلا العيدين، والعيد يأتي للأطفال للتنزه في الحدائق العامة.

أما الكبار، الآباء والأمهات، فلسان حالهم يقول "عيد بأية حال عدت يا عيد". يحملون همَّ شهر الصوم لتوفير مواده الغذائية الضرورية والإضافية، والملابس الجديدة. هم الطبقات الفقيرة وصغار موظفي الدولة الذين كانت الوظيفة "الميري" من قبل ستراً لهم باعتبارهم الطبقة المتميزة و"أفندية" المجتمع. ينتظرون منحة العيد أو "تحويشة" العام لإنفاقها في هذا الشهر الذي تزيد فيه المصاريف وتكثر الالتزامات. ينتظرون زكاة رمضان، وصدقات الكرماء، استمراراً لموائد الرحمن. فقد تهبط عليهم هبات المؤمنين وأرزاق السماء، (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ).

والمؤشر على ذلك سماع "كل سنة وأنت طيب". يطلقها الشحاذون في الشوارع، والمغنون في الطرقات، والكناسون على الكباري وفوق الطرق السريعة، كل منهم بمقشة طويلة يستند إليها واقفاً لا يعمل شيئاً إلا انتظار العربات لتحيتها بالكلام أو برفع اليد إلى الجبهة أو تحتها. ورقبة يزيحها يميناً ويساراً. وفي رقبته "مخلة" يضع فيها ما تجود به الأنفس. ومنهم من يتزين بزيهم، فالشحاذة على الكباري العلوية أكسب من الحواري والطرقات. ويطلقها الباعة المتجولون، وجامعو القمامة على رغم الفاتورة التي يدفعها كل مواطن على الكهرباء سواء كان مقيماً أو مسافراً لجمعها آلياً وهي ما زالت تـُجمع بالعربة الخشبية والحمار، وتلقى على النواصي ووسط الطرقات. ويطلقها باعة الأرصفة، ومنادو السيارات، والباعة في المحال وحاملو الحقائب في المطارات، والسائقون وعمال التراحيل في نقاط التجمع في شوارع المراكز التجارية والسوبرماركت وغيرها. أصبحت "كل سنة وأنت طيب" بدلا من "لله يا محسنين"، "كله على الله"، "يا رب"، "يا أولاد الحلال".

كما يطلقها المرضى في الشوارع، والمعوقون على الأرصفة أو على عربات جر المعاقين، والمسنون الذين لا عائل لهم، والأرامل حاملات الأطفال على الأذرع أو واضعات إياهم في الحجور للتسول باسمهم واستدرار عطف المارة. والأخطر أن يهمس بها صغار الموظفين على مكاتبهم، موظفو البريد، محصلو الكهرباء والغاز، سعاة البريد يطرقون على الأبواب، المسحراتية، وكل من يتعامل مع الجمهور. ومنهم بالملابس الرسمية للدولة، مثل عساكر الشرطة على أبواب البنوك والمباني الرسمية، ومنهم حراس الأمن على الشركات الخاصة الواقفون بالساعات لتحية القادمين والمغادرين، وهم أحوج إلى الأمن من إعطائه للآخرين. "والله لو كان الفقر رجلاً لقتلته".

ولا أحد يذكر الحياء والتعفف في القرآن الكريم، والفقراء الذين يُعرفون بسيماهم ولا يسألون الناس إلحافاً، تحسبهم أغنياء من التعفف. فلا كرامة مع الفقر، ولا حياء مع الحاجة.

أما غير الفقراء فلهم طرقهم الخاصة في الإثراء بمناسبة رمضان أو في كل مناسبة أخرى. فمعظمهم من رجال الأعمال الذين يعرفون طرق الإثراء، السلطة أو المصاهرة أو التحايل على القانون أو تهريب الأموال أو تبادل الصفقات. لا يسيرون بالشوارع، ولا يتعاملون مع صغار الموظفين بالمكاتب الحكومية، بل في الأعياد يذهبون إلى التجمعات السياحية في البحر الأحمر أو على الساحل الشمالي، بالطائرة التي لا ترى أحداً، أو بالعربات الفارهة السوداء المغطاة نوافذها بالستائر. بالنسبة لهؤلاء كل أيامهم أعياد، وكل حركاتهم وسكناتهم أرزاق. هم من "الواصلين"، ليس إلى الله على طريقة الزاهدين، بل إلى السلطة والثروة عن طريق التقرب والمداهنة والوصول. وقد يقيم بعضهم موائد الرحمن لتأسيس ثروتهم على الشرعية الدينية، الصدقات وإطعام الجائعين والفقراء.

في هذه الأسابيع من كثرة سماع "كل سنة وأنت طيب"، "الله يعود عليكم الأيام بالخير"، "كل عام وأنتم بخير" من كل اتجاه، قد يظن أن شعب مصر شعب من الفقراء. يمد البعض منه اليد للسؤال بدلا من أن يمدها بالفأس للزراعة في الحقل، أو بالمفتاح للإنتاج في المصنع، أو بالقبضة في وجه المحتالين والظلمة والمستغلين والإقطاعيين. وقد تؤثر فيهم مقامات الصوفية والزهد الإسلامي الموروثة، الرضا والتوكل والفقر، فتجعلهم راضين متوكلين زاهدين فقراء، إلا ما يقيم الأود ويبقي على الحياة.

ويفهم الإنسان لماذا السعي للعمل في بلاد النفط، والوقوف بالساعات أمام السفارات الأجنبية للهجرة، واستجداء الحكومات المعونات الأجنبية في مقابل علاقات التعاون والدخول في أحلاف معها؟ ولماذا تفقد شرائح واسعة الأمل، لأنه ليس لديها شيء تفقده، لا سلطة ولا ثروة، لا حاضر ولا مستقبل. شباب دمره المجتمع وهو يدمره، دماراً بدمار؟ ولماذا يزداد معدل الجريمة والانتحار، وقد يقتل الابن أمه أو أباه أو أخاه أو أخته، لأنه ليس لديه شيء يخاف فقدانه؟ ينتقل من المطلق إلى المطلق، من الحرمان إلى الإشباع، ومن الفقد إلى الوجد، ومن الهداية إلى الضياع. وإن لم يجد له مخرجاً في السياسة أو في الدين فإنه قد يموت غماً وكمداً وحزناً جراء الوقوف في المكان وانسداد كل سبل الحركة.

هي أوضاع تتحدى مثقفي مصر وثوارها، الذين يذكرون ثورة 23 يوليو 1952 ويحنون إليها. وهم الذين قاموا بالإصلاح الزراعي، وبتأميم قناة السويس، وبتمصير الشركات الأجنبية، وبناء السد العالي، وبوضع خطط خمسية للتنمية لمضاعفة الدخل القومي. هم الذين ما زال يرن في آذانهم نداء "أيها الإخوة المواطنون"، لإثارة العزة في النفس والكرامة للوطن. وإذا كانوا من المتدينين فإنهم يذكرون وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بمصر، أهلها وقبطها وجندها، "مصر كنانة الله في الأرض، ما طلبها عدو إلا أهلكه الله"، وما أكثر ما لمصر من أعداء في الداخل والخارج، "مصر أطيب الأرضين تراباً". وفي الأمثال العامية "ما بتبعد مصر على حبيب". والحبيب لا يهاجر بل يأتي ويستوطن حيث الحبيب. "جندها خير أجناد الأرض وشعبها مرابط إلى يوم القيامة". فأين هذا؟ وأين ذاك؟ ومتى يوم القيامة؟
 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية