مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 الهندسة والزندقة
...............................................................

أحمد فوزي
....................


أخبرنا أبو حيان التوحيدي عن أبي بكر الصيمري عن ابن سمكة عن ابن محارب أنه قال:

كتب ابن ثوابة ( متولي ديوان الانشاء في عهد الخليفة المعتضد المتوفي سنة 273 هـ ) كتابا ردا على أحمد بن الطيب السرخسي ( تلميذ فيلسوف الاسلام الكندي ونديم المعتضد وموضع سره الذي مات مقتولا سنة 286 هـ ) لما سأله أن يخبره عما دار بينه وبين القويري ( المنطقي المعروف شيخ متى بن يونس ).

وأقدم هنا ملخصا لهذا الكتاب لما له من أهمية في واقعنا المعاصر :

الحمد لله مولي النعم، والمتوحد بالقسم، إليه يرد علم الساعة وإليه المصير..........

أن أبا عبيدة لعنه الله تعالى بنحسه ودسه وحدسه ، اغتالني ليكلم ديني من حيث لا أعلم، وينقلني إلى الزندقة بسوء نيته إلى الهندسة.

ومما قاله ليرغبني في الأمر:
-.أضف إلى فضائلك معرفة البرهان القياسي،وعلم الأشكال الهندسية الدالة على حقائق الأشياء، ولتقرأ كتاب إقليدس وتتدبره.

فقلت : وما كان إقليدس ومن هو ؟

قال : رجل من علماء الروم يسمى بهذا الاسم، وضع كتابا فيه أشكال كثيرة مختلفة تدل على حقائق الأشياء المعلومة والمغيبة، يشحذ الذهن، ويدقق الفهم، ويلطف المعرفة، ويصفي الحاسة، ومنه افتتح الخط وعرفت مقادير المعجم.

فقلت : كيف ذلك؟

قال : لا تعلم كيف هو حتى تشاهد الأشكال وتعاين البرهان، وأني آتيك برجل يفيدك علما شريفا تكمل به فضائلك.

فقلت في نفسي : عسى أفيد براعة في صناعة، أو كمالا في مروءة، أو فخارا عند الأكفاء.

وأجبته : بأن هلم؟

فأتاني برجل يقال له قويري ، وهو شيخ ديراني شاخص النظر، منتشر عصب البصر، طويل مشذب محزوم الوسط، متزمل في مسكه، فاستعذت بالرحمن إذ نزغني الشيطان، ومجلسي غاص بالأشراف من كل الأطراف، وكلهم يرمقه ويتشوف إليه، ويعظمونه ويحيونه، والله محيط بالكافرين.

فأخذ الشيخ مجلسه، ولوى أشداقه، وفتح أوساقه، فتبينت في مشاهدته النفاق، وفي ألفاظه الشقاق. فقلت : بلغني أن عندك معرفة بالهندسة ، وعلما واصلا إلى فضل يفيد الناظر فيه حكمة وتقدما في كل صناعة، فهلم أبدنا منها شيئا عسى أن يكون عونا لنا على دين أو دنيا، فذلك هو الفوز العظيم" فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز" وما ذلك على الله بعزيز.

قال: فأحضرني دواة وقرطاسا.

فأحضرتهما إليه، فأخذ القلم ونكت نكتة، نقط منها نقطة تخيلها بصري، وتوهمها طرفي، كأصغر من حبة الزر، فزمزم عليها من وساوسه، وتلا عليها من حكم أسفار أباطيله، ثم أعلن عليها جاهرا بإفكه، وأقبل عليّ وقال : أيها الرجل، إن هذه النقطة شيء لا جزء له.

قلت : أضللتني ورب الكعبة، وما الشيء الذي لا جزء له؟

قال : كالبسيط..

فأذهلني وحيرني وكاد يأتي على عقلي، لولا أن هداني ربي؛ لأنه أتاني بلغة ما سمعتها من عربي ولا عجمي، فقلت :
- وما الشيء البسيط؟

فقال: كالله، وكالنفس.

فقلت له : إنك من الملحدين! أتضرب لله الأمثال والله يقول" فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون"؟ لعن الله مرشدا أرشدني إليك، ودليلا دلني عليك، فما ساقك إليّ إلا قضاء سوء، ولا كسعك نحوي إلا الحين، وأعوذ بالله من الحين، وأبرأ إليه منكم ومما تلحدون، والله ولي المؤمنين، إني بريء مما تشركون، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فلما سمع مقالتي كره استعاذتي، فاستخفه الغضب فأقبل مستبسلا وقال:
- إني أرى فصاحة لسانك سببا لعجمة فهمك، وتدرعك بقولك آفة من آفات عقلك..

فلولا من حضر والله المجلس واصغاؤهم إليه مستصوبين أباطيله، ومستحسنين أكاذيبه، لأمرت بسل لسانه، وأمرت باخراجه إلى حر نار الله وسعيره، وغضبه ولعنته.

ونظرت فإذا بأمارات الغضب في وجوه الحاضرين ، فقلت :
- ما غضبكم لنصراني يشرك بالله، ويتخذ من دونه الأنداد، ويعلن بالالحاد؟

فقال لي رجل من الحضور : إنسان حكيم!

فغاظني قوله، فقلت : لعن الله حكمة مشوبة بكفر.

فقال لي آخر: إن عندي مسلما يتقدم أهل هذا العلم!

فرجوت بذكره الإسلام خيرا فقلت :
- إئتني به.

فأتاني برجل قصير دحداد آدم مجدور الوجه، أخفش العينين، أجحأ أفطس، سيء المنظر، قبيح الزي، فسلم فرددت عليه السلام، فقلت: ما اسمك؟

فقال : أعرف بكنية قد غلبت عليّ.

فقلت : أبو من ؟

فقال : أبو يحيى ..

فتفاءلت بملك الموت عليه السلام، وقلت : اللهم أعوذ بك من الهندسة، اللهم فاكفني شرها فانه لا يصرف السوء إلا أنت.

وبعد أن قرأت الحمد لله والمعوذتين وقل هو الله أحد، قلت :
- إن صديق لي جاءني بنصراني يتخذ الأنداد، ويدعي أن لله الأولاد، ليغويني ، فهلم أفدنا شيئا من هندستك، وأقبسنا من ظرائف حكمتك، ما يكون سببا إلى رحمة اللهو وسيلة إلى غفرانه، فانها أربح تجارة، وأعود بضاعة؟

فقال : أحضرني دواة وقرطاسا.

فقلت : أتدعو بالدواة والقرطاس وقد بليت منهما ببلية لم تندمل عن سويداء قلبي؟

فقال : وكيف كان ذلك؟

فقلت : إن النصراني نقط نقطة كأصغر من سم الخياط وقال لي إنها معقولة كربك الأعلى !

فقال : إني أعفيك من النقطة، لعن الله قويري وما كان يصنع بالنقطة؟ وهل بلغت أنت أن تعرف النقطة؟

فقلت في نفسي : استجهلني ورب الكعبة! أنا الذي أخذت بأزمة الكتابة ونهضت بأعبائها، واستقللت بثقلها، يقول لي لا تعرف فحوى النقطة؟

ونازعتني نفسي في معالجته بغليظ العقوبة، ثم استعطفني الحلم إلى الأخذ بالفضل.

ودعا غلامه وقال له :
- ائتني بالتخت.

فأتاه به قبل أن يرتد إليه طرفه، فوجدت هيئته منكرة، ولم أدر ما هو، فجعلت أصوب الفكر فيه وأصعده لأعلم أي شيء هو، أصندوق هو؟ فاذا هو ليس بصندوق؛ أتخت هو؟ فاذا هو ليس بالتخث الذي أعرفه، فتخيلته كتابوت، فقلت في نفسي :
- لحد لملحد يلحد به الناس عن الحق !!

ثم أخرج من كمه ميلا عظيما مدببا فظننته متطببا وإنه لمن شرار المتطببين . فقلت له :
- إن أمرك لعجب كله! ولم أر أميال المتطببين كميلك، أتفقأ به العين؟

قال : لست بمتطبب ولكن أخط به الهندسة على هذا التخت.

فقلت له : إنك وإن كنت مباينا للنصراني في دينه، لمؤازر له في كفره، أتخط بميل لتعدل به عن وضح الفجر إلى غسق الليل؟ وتميل بي إلى الكذب باللوح المحفوظ وكاتبيه الكرام؟ إياي تستهوي؟ أم حسبتني كمن يهتز لمكايدكم؟

فقال : لست أذكر لوحا محفوظا ولا مضيعا، ولا كاتبا كريما ولا لئيما، ولكني أخط فيه الهندسة، وأقيم عليها البرهان بالقياس والفلسفة.

فقلت له : أخطط.

فأخذ يخط وقلبي مروع يجب وجيبا. وقال لي فير متعظم :
- إن هذا الخط طول بلا عرض.

فتذكرت صراط ربي المستقيم، وقلت له:
- قاتلك الله، أتدري ما تقول؟ تعالى صراط ربي المستقيم عن تخطيطك وتشبيهك وتحريفك وتضليلك، إنه لصراط مستقيم، وإنه لأحد من السيف الباتر، والحسام القاطع، وأرق من الشعر،وأطول مما تمسحون، وأبعد مما تذرعون، ومداه بعيد، وهوله شديد، أتطمع أن تزحزحني عن صراط ربي، وحسبتني غرا غبيا لا أعلم ما في باطن ألفاظك، ومكنون معانيك؟

ودون أن ألتقط أنفاسي استطردت :
- والله ما خططت الخط وأخبرت أنه طول بلا عرض إلا مثلة بالصراط المستقيم لتزل قدمي عنه، وأن ترديني في جهنم. أعوذ بالله وأبرأ من الهندسة وما تدل عليه وترشد إلبه. إني برء من الهندسة ومما تعلنون وتسرون وبئسما سولت لك نفسك أن تكون من خزنتها بل من وقودها، ولإن لك فيها لأنكالا وسلاسل وأغلالا وطعلما ذا غصة.

حاول أن يتكام ، فقلت :
- سدوا فاه مخافة أن يبدر من فيه مثل ما بدر من المضلل الأول.

وأمرت بسحبه فسحب إلى أليم عذاب أليم، ثم أخذت قرطاسا وكتبت بيدي يمينا آليت فيها بكل عهد مؤكد، وعهد مردد، ويمين ليست لها كفارة، أني لا أنظر في الهندسة أبدا، ولا أطلبها ولا أتعلمها من أحد سرا ولا جهرا، ولا على أي وجه من الوجوه، ولا على سبب من الأسباب، وأكدت بمثل ذلك على عقبي وعقب أعقابهم لا تنظروا فيها ولا تتعلموها مادامت السموات والأرض إلى أن تقوم الساعة لميقات يوم معلوم.

تم كتاب ابن ثوابة

ملحوظة : عقب ياقوت على خبر هذا الكتاب بقوله : لا شك أن أكثر ما في الرسالة مفتعل مزور، وما أظن برجل مثل ابن ثوابة ومكانته العلمية والأدبية قد خط ذلك بيمينه فهو أجل من ذلك. ويرجح أن الخبر مدسوس من ابن الطيب لأنه كان فيلسوفا وكان ابن ثوابة متعجرفا فأخذ يسخر منه ليضحك المعتضد!!


21 مايو 2009
 

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية