مصرنا


مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الامريكية عن المركز الامريكى للنشر الالكترونى .. والاراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها
رئيس التحرير : غريب المنسى
............................................................................................................................................................

 
 

 عنزة تمازي
...............................................................


مأمون فندي
..............


«عنزة تمازي جابت ولد»، جملة كتبتها على السبورة وأنا أدرس محاضرة المنهجية لطلابي في جامعة جورج تاون الأميركية، كتبتها ضمن الأحداث الكبرى المشكلة للوعي أو الفكر المهيمن، حسب رؤية المفكر الايطالي أنتونيو غرامشي، مثل الحرب العالمية الثانية في أوروبا أو الحرب الأميركية في فيتنام او الحرب الكورية، أو حتى حرب الأيام الستة في الشرق الأوسط. تذكرت هذه الجرأة التي كنت أملكها في مناقشة أحوال محلية جدا لخلخلة «الكلام الكبير» في الجامعات الغربية وأنا أقرأ سيل الكتابات عن حرب 67 في الشهر الفائت. لم تعد لدي ذات الجرأة ومع ذلك قررت أن أجرب على العرب تاريخنا الصغير كما كنت أجربه على التاريخ الغربي.

في قريتي، في أقصى صعيد مصر، لم يكن الحدث المشكل للوعي في يونيو 1967 هو الحرب أو النكسة او الهزيمة، لكن رؤيتنا للعالم اهتزت واختل النظام الكوني في أعيننا عندما علمنا بأن «عنزة تمازي جابت ولد». بالفعل، في يوم مشهود جاب أطفال القرية الشوارع في مشهد أقرب إلى مشهد الأطفال في رواية «الطوق والإسورة» لبلدياتي يحيى الطاهر عبد الله، عندما صاح الصبية «فهيمة بنت حزينة جابت بنت». ودلفت القرية إلى منزل تمازي تلك المرأة الفقيرة التي لم يكن لها من متاع الدنيا سوى عنزتها وبيت يسترها مع ابنها الشاب الذي يعاني من خبل كان يراه البعض بركة ونعمة، هذا اليوم كان يوم القيامة بالنسبة لتمازي، إذ فجأة تحول ابنها الذي كان يتبارك الناس به إلى متهم في عيونهم بعد أن تبينوا أن العنزة قد أنجبت جديا برجلين اثنين ووجه. أقسم أهل القرية، طبعا نتيجة لتكرار الرواية، على أنه يشبه وجه ابن آدم.. تلك هي اللحظة التي تغير فيها كوسمولوجي القرية أي رؤيتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا.

كتبت هذه الجملة على السبورة ضمن الأحداث الجسام، وعيني ترقب وجه ماليسا بلاك، تلك الشقراء متوقدة الذكاء التي لو رآها أبي لقال عنها «غزالة شاردة من إسكندرية»، قلت لطلابي إنه ما من يوم يمر إلا وهناك مأساة في العالم ولكننا نختار أحداثا بعينها ونجعلها علامات تاريخية فارقة.

أذكر أيضا أنه في عام 1973 يوم نصر أكتوبر، ماتت بقرة أم ابراهيم، ولم يكن في البيت سوى أم ابراهيم وبقرتها، وبموتها جف الزرع والضرع بالنسبة لصاحبتها، فهي مصدر رزقها الوحيد وأنيستها في الحياة. ماتت البقرة و«اتفك النظام» The Global Order Collapsed أمام عينيها.. حدث بالنسبة إلى أم ابراهيم أشبه بنهاية العالم أو إلقاء القنبلة على هيروشيما.

وكتبت على السبورة أحداثا عالمية كبرى، ووضعت مقابلها أحداثا صغيرة وقعت في قريتي النائية في نفس الفترة الزمنية، وسألت الطلاب هل سمعتم بنكساتنا وهزائمنا الشخصية هذه؟ فابتسمت ماليسا «الغزالة الشاردة من إسكندرية» وقالت لا، ورغم الابتسامة الساحرة تجرأت وقلت لها إن لم تصلكم أحداثنا التي كانت جسيمة بالنسبة إلينا، فلماذا تتوقعون أن نهتم بأحداثكم؟ الحرب العالمية ليست عالمية إلا إذا اعتبرتم أن عالمكم أنتم فقط هو العالم كله، ما سميتموه بالحرب العالمية كانت حربا أوروبية وأحيانا أميركية لكنها لم تكن ضمن عالمنا نحن.. في قريتي لم نتأثر حتى بحرب الـ 1967 أو بحرب 1973 والتي يراها الكثيرون في الشرق الأوسط حدثا فاصلا، بالنسبة إلينا كان الحدث الكوني هو عنزة تمازي التي «جابت ولد». وطلبت يومها من الطلاب أن يكتبوا أوراقا بحثية عن الإشكالية المعرفية في تبني القصص الكبرى على حساب المآسي الصغيرة، وعن الآليات التي تجعل تلك القصص مهيمنة. طلبت من بعضهم محاولة قراءة «عنزة تمازي جابت ولد» في الاطار النظري لانتوني جدينز وحديثه عن الحداثة كانتقال للفرد من العلامات المحلية للزمان (كالشمس والقمر) إلى العلامات الوطنية والعالمية المجردة للزمان (مثل الساعة والتاريخ المكتوب) أو حتى من خلال رؤية فوكو، من أركولوجية المعرفة إلى موت المؤلف الى فكرة «البنبتكون».

تذكرت هذا الحوار الذي دار بيني وبين طلابي في جورج تاون في عام 1996، عندما رأيت سيل المقالات والمقابلات المتلفزة في ذكرى مرور أربعين عاما على حرب 1967، والتي لم تكن علامة فارقة بالنسبة لأهلنا في القرية، فالحدث الأعظم الذي يؤرخون به هناك هو أن فلانا ولد يوم «عنزة تمازي جابت ولد»، وهناك أحداث أخرى أقل وعلامات على الطريق نؤرخ بها ولم يكن ضمنها أي حدث كبير، اللهم إلا ما يسمونه يوم «طفي النور»، وظني أنه مرتبط بحرب 1956 وليس بحرب 1967.

غريب في تلك المقالات كانت اللغة التي يكتب بها كاتب مغربي أو سوداني أو حتى سعودي، يكتبون عن حروب لم تصلهم، في حالة من التماهي الكاذب. مقالات لو قرأها الفيلسوف الفرنسي بودريارد لاقتنع بنظريته التي يكون فيها «الوهم أكثر معقولية وتصديقا من الحقيقة». مقالات تذكرني بما كنت أقرأه لشعراء الحداثة في الصعيد عندما يتحدث بعضهم عن العوسج والبنفسج والاقحوان بينما لم نر في حياتنا في الصعيد سوى أشجار الاثل والنخيل. أغرب من هذا أن يصدق شاعر من بريدة أنه مستلق تحت أشجار الزيزفون. كانت مقالاتنا وهما أشبه بزيزفون بريدة وعوسج الصعيد.

نكساتنا في القرية كانت أكبر من نكسة سبعة وستين. فعلى سبيل المثال، ماتت أختي الصغرى ولم تكن قد بلغت الأربع سنوات نتيجة الجفاف الشديد، لأنه لم يكن هناك طبيب أو وحدة صحية على مساحة دائرة قطرها ثلاثون كيلومترا. لكثرة الأطفال الذين كانوا يموتون كانت هناك مقبرتان في القرية إحداهما في بطن الجبل لدفن البالغين والثانية في داخل القرية بجانب مقام لأحد الصالحين كانت لدفن الصغار، أما من لم يتجاوز الشهور فكان يدفن تحت عتبة الدار، وهي عادة فرعونية قديمة قدم وجوه ناس تلك البلاد.

كان النهر يفصلنا عن الحضارة، ودخلت الحضارة قريتي بدخول الإنارة عام 1980، كنت في سنتي الجامعية الثالثة، أي أنني حصلت على الشهادة الثانوية على لمبة غاز أو كيروسين، وأنا في منتصف الأربعينات الآن حتى لا يظن القارئ أن الشيب بلغ مني مبلغه، وكي لا يظن أيضا أن الكهرباء قد وصلتنا منذ زمن بعيد.

عندما أديت الخدمة العسكرية كضابط احتياط على منفذ رفح الذي يفصل مصر عن الأراضي الفلسطينية المحتلة، رأيت رفح أو حتى معسكر كندا للاجئين أفضل بكثير من القرية التي نشأت فيها، كانت المرة الاولى التي تقع عيني فيها على اللوز والتفاح، ومع أول إجازة صرفت كل راتبي وأحضرت بعضا من ذلك إلى أهلي. كنا لا نعرف من الحلوى سوى القصب بعد الأكل، ولم تكن لدينا ادوات لعصره فكنا نمصه مصا.. كان معظم أهل القرية نباتيينVegetarians) ) من شدة الفقر، فالخراف لا تذبح بل تباع.. أستطيع اليوم أن أتحدث عن هذا كله من دون خجل، رغم أنني أعرف أن ناسي في القرية ما زالوا يخجلون منه، الفرق بيني وبينهم أنني رأيت من الدنيا الكثير ولم أعد أخشى الفقر كعار، وإنما أخشى أن تبقى قصتنا مدفونة تحت ركام القضايا الكبرى، وأن تردم نكساتنا الشخصية تحت أنقاض النكسات الكبرى، فبعض الذين يندبون على نكسة سبعة وستين في الفضائيات يملكون شركات مالية كبرى مثل «هيرميز» وغيرها، أما فقراء الاطراف فما زالت نكستهم قائمة.

اجتمعت مرة مع بعض المنعمين من ملحقي سفاراتنا في الغرب، ممن يرشون عليك الوطنية أو التخوين كحبات الرز، وفي ذكر لحروبنا تبين أنني الشخص الوحيد ضمن الجالسين الذي خدم وطنه كضابط احتياط في كل سيناء تقريبا، أما الوطنيون المرفهون فكانوا قد دبروا بمعية عائلاتهم ومعارفهم إعفاء من الخدمة العسكرية.

عندما أذهب الى الصعيد لا أحدثهم عن لندن وواشنطن والحرب على الارهاب، أو حتى عن الصراع العربي الاسرائيلي، ذلك لان التفكير بالقضايا الكبرى بالنسبة لهم ترف. تاريخهم الشفوي قد يقبل في جامعات الغرب ولكنه لا يقبل في صالونات القاهرة. يقبل فقط كتاريخ ممسوخ للتندر أو النكتة. ولا يقبل حديث منهم مثلي لأنهم يريدون صعيديا مخففا «يستشرقون» عليه، يريدون منه أن يحكي عن صعيد العوسج الذي نسجته خيالاتهم. أما أنا فلا أخجل من القول إنني لم أفهم أغنية عبد الوهاب «ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين». وكيف لي، وأنا لم أر زهر البنفسج؟ وكيف لي وقد تجاوزت عقلية الانبهار وعقلية التخوين.

نحن قوم مكسورون من الداخل بألف نكسة ونكسة، لكننا ممنوعون من الكلام، تغطي على حكاياتنا الصغيرة حكايات كبرى. نحن الذين ندعى إلى الحرب ولا ندعى إلى المسامرة، نحن الذين لم نأكل لحم الضأن، كما يقول الجنوبي أمل دنقل. نحن قاعدون في هذه الدنيا، كما يقول طلال حيدر، «متل الفقير اللي قاعد بضو القمرعم يرشق الدنيا بحجر». فعذرا، أنني لم أشارككم حفلة التكاذب.
 

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية