مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 ثقافة الهزيمة ... وصناعة التخلف الحضاري!!
...............................................................

بقلم: د. محمد فوزي عبدالحي
.....................................


يمثل المحتوى الثقافي في بيئات التعليم، ومعاهد التربية والتنشئة، وأماكن العبادة، والبرامج المتلفزة والإذاعية، والروايات والقصص المقروءة والتمثيلية، والأغاني والأناشيد، والمواويل والتواشيح - تمثل كلها المجموع الذهني المحرك للفكر الإنساني والقطيع الشعبي في المجتمعات المختلفة؛ حيث تتبلور الأفكار، وتتراكم الآراء والانطباعات والرؤى محددة الهوية الثقافية والمنحي العقلي والذهني لدى جمهور الأمة، والأمة الرشيدة هي التي يقوم قادتها برسم أهدافها على أساس من تاريخها وعراقتها، وثقافتها وغاياتها، والأمة المحظوظة هي التي يتبوأ فيها المخلصون دفة القيادة الفكرية والتكوين الثقافي؛ حيث من العبث أن نتصور أمة من القادة، فاختلاف الملكات، وتفاوت المواهب، وتباين القدرات من حقائق الوجود.
وهذه الفئة القيادية الخلاقة إذا انزوت في سجون الفقر والحاجة والخوف وكبت المواهب، أو قوانين الاحتكام للواسطة والمحسوبية وتوريث مناصب القضاء والعسكرية والشرطة والإعلام والدبلوماسية لصالح المحظوظين من ذوي الأصول الجركسية التركية وأبناء الملتزمين والإقطاعيين في العهد الملكي بالإضافة إلى أبناء الطبقة التي صعدت يوما بكفاءة التعليم وكونت الطبقة الوسطى، ونجح كثير من أبنائها في تبوأ مناصب قيادية في الدولة والانضمام إلى الطبقة العليا ثم ما لبثت أن انقلبت على مبادئها حتى رأينا السادة المستشارين يتجمهرون من أجل حصول أبنائهم على الوظائف القضائية دون استحقاق – إذا انزوت هذه الفئة تخسر الأمة روح القيادة وتقتل أفذاذ القادة لأنهم يصيرون غرباء في وطن ينتمون إليه ولكن لا ينتمي إليهم، فتتراجع مكانة الأمة وتفتقر للعقل المبدع والتخطيط الصحيح والروح المخلصة.

إن الأمم - دولا وشعوبا – قطيع كبير من البشر ترتسم أحلامهم ومطامحهم بناء على الغذاء الثقافي الذي يتلقونه، فإذا فسد الغذاء الثقافي وغابت القدوة والتوى سلوك الكبار - فسدت الأحلام، ومن ثم فسدت المطامح، وهنا تتولد ثقافة الهزيمة؛ ثقافة الهزيمة التي تخلق اللامبالاة، وتقتل الانتماء، ويتربى في أحضانها شر وليد في الكون؛ إنه الابن البكر، والعدو الأكبر للفكر والإبداع والتقدم المستحق؛ إنه النفاق.

وعندما تختل موازين الحق، وتفقد الأمة الثقة في قيام العدالة، تنطلق الهزيمة من عقالها؛ تلك الهزيمة النفسية التي تعطي رجال الشرطة والقضاة وأصحاب الجاه والأموال ألقاب العهد الإقطاعي (البيه والباشا) في ظل الجمهورية؛ كان المصريون أيام الملكية ينادون المعلم "أستاذنا" والشيخ "سيدنا"، واليوم لم يعد هناك معلم بل "مدرس خصوصي"، ولم يعد الشيخ "سيدنا" بل "مولانا" تلطفا أو تهكما، وكلاهما خادم يمد يده بلطف ليأخذ الثمن حتى يواصل الحياة!!

لقد دخلت الهزيمة البيت فسَقَتْ غراس الخوف في قلوب الآباء والأمهات على أولادهم إذا أظهر الأبناء أي لون من الانتماء الحزبي أو الحركي أو الديني، ولم يدر بخلد هؤلاء أنهم يساهمون في صناعة ثقافة الهزيمة!!
تلك الهزيمة النفسية ثقافة ترسم الحياة بصورتها الكالحة في نفوس المتفوقين الكادحين من أبناء الأمة، وهم يعرفون مصيرهم، ويبحثون حثيثا عن مخرج للهروب من الوطن؛ ومن العبث أن ننسب هجرة آلاف العلماء للحاجة فحسب بل للتيقن من ضياع المستقبل العلمي والحياتي والقيادي في وطن الغربة (وطنهم الأصلي) وتيقنهم من وجود الفرصة في وطن الحلم (الغرب الأوروبي والأمريكي).

وإذا كان التعليم في مرحلة السبعينيات والثمانينات ظل طريقا ممكنا لفئة محدودة من المتفوقين وأصحاب الكفاءات، فقد تغير الأمر بعد انتشار التعليم الخاص وتسلط المال والواسطة على كثير من المرافق والمراكز، فسقطت مهابة العلم، وتراجع مستوى التعليم، وصارت الحياة بمعناها المادي مطلب الجميع؛ سقط العلم فسقط الوطن، احتلت مجموعة من شركاء الوطن مراكز التميز فضاع انتماء الأمة، وصار شباب الأمة يهرب من وطن لا يمنحه العمل مقابل الحياة ولا يتيح له الحياة، ليعيش منبوذا مطاردا ينتحل جنسيات أخرى (فلسطيني – عراقي (أثناء الحرب)) حتى يجد مأوى يداريه في وطن يحميه ويمنحه الحياة مقابل العمل، تراجعت الأمة القائدة التي يؤهلها موقعها وتاريخها وعددها لتكون قوة عالمية، وتبلور أفرادها كل حول همه ونفسه فضاعت شخصية الأمة، وتاهت سفينتها.

أصَّلت ثقافة الهزيمة لانفصام الشخصية المصرية؛ فنحن نتكلم بألف لسان، ولدينا ألف وجه، ونتمتع بألف قناع، ونتلون بألف لون، ونبلور المواقف، ونفصّل الفتاوى، ونخادع أنفسنا والآخرين في وقاحة لا نحسد عليها. ثقافة الهزيمة جعلت المسئول الكبير دائما على حق، والشوارع القذرة تصير نظيفة لمجرد توقع زيارة رئيس أو وزير أو محافظ، والمكاتب الخاوية من الموظفين تعمر للسبب ذاته، والخطط التي أكل الزمان عليها وشرب تدب فيها الحياة مؤقتا، بل إن السادة الوزراء والمحافظين لا يتكلمون كلمة ولا يتحركون حركة إلا تنفيذا لتعليمات الرئيس؛ وأين هي مؤهلات هؤلاء السادة إذًا، فمن العبث أن نتصور أن شخصا واحدا يجيد التخطيط لكل شيء والأمر به!!

إنها ثقافة الهزيمة التي محت القدرة على الإنجاز ومهدت لبعث للتأليه الفرعوني القديم في صورة أشد ضررا وأعمق أثرا على الأمة!!
إن ثقافة الهزيمة وقحة فجة حمقاء؛ فالفنان الذي ينتقد النظام والحكومة لنيل الشهرة أو اجتذاب الجماهير على شباك التذاكر هو نفسه الذي يكيل المدح للنظام والحكومة في حال الجد، بعد أن جنى ثمرة دغدغته لعواطف الشعب من الشباك أو من الجوائز الحكومية والامتيازات المرتبطة بها، وهو الآن في مسرحية هزلية يحاول حفظ مكانته في الهرم الاجتماعي للطبقة صاحبة النفوذ!!

كذلك أصلت ثقافة الهزيمة لأمثالنا الشعبية المنتكسة المنكسرة: "المياه لا تطلع في العالي"، "العين لا تعلو على الحاجب"، "لو كان لك عند الكلب حاجة، قل له: يا سيدي"، "اللي يبص لفوق رقبته تنكسر/يقع على وجهه" ، "طاطي وخليها تعدي"، "يا بخت من بات مغلوبا ولم يبت غالبا"، "اللي يتجوز مامتك قول له: يا بابا"، "الكبير كبير"، "الشتائم لا تلصق"، "ربنا على المفتري"، "مشي جنب الحيط"، الخ..
أدرك أنه من الممكن الدفاع عن كثير من هذه العبارات والرجوع بها لأصول أخلاقية سليمة، ولكن ترسيخ ثقافة الاستخذاء واستذكار المواقف التي تنطلق فيها هذه العبارات يجعل من الدفاع عنها في هذا السياق الاجتماعي التاريخي أمرا بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلا!
والحقيقة أن هذه الأمثال وأشباهها إلى جانب العلف الثقافي الفاسد أفقدت جميعها الأمة روح الدفاع عن الحق، والتضحية من أجله، كما طبعت تاريخها الذهني بطابع اليأس، وجعلت أفراد الأمة - على الدوام - مؤهلين للبيع في سوق النخاسة العالمي.

حصاد الثورة المصرية

بضع وخمسون عاما مرت والأمة المصرية العظيمة المطحونة؛ لُحمة الإسلام وقائدة العروبة وحامية التاريخ ومهد الحضارة، تترنح بدءًا باشتراكية مشوهة، ومرورا بحراك حزبي وحركي تمثيلي، ووصولا إلى انفتاح كلامي وفيلم ديمقراطي ومسرحية انتخابية بلا جوهر ولا حيقة!!
بضع وخمسون عاما ترعرعت فيها قوة الأقوياء، وتفاحش فيها ثراء الأثرياء، وتفاحل فيها قانون الخوف، فضاقت الأرزاق وكُبتت المواهب، وأصبح الحلم المصري يكمن في قارب "مكهّن" يعبر بالشباب البائس إلى "روما" أو يلقي به على شواطئ "اليونان" بحثا عن الحلم حتى ولو كان شبح الموت يخيم على الرحلة!! فكما قال لي أحدهم (متخرج في كلية الآداب، قسم تاريخ، ولا عزاء للفراعنة!!!): "احنا ميتين ميتين، وأهي رحلة؛ يا نعيش صح، يا نموت ونخلص!!" يا الله هرب الأصدقاء جميعا إلى الوطن الحلم، لم يعد في وطن الغربة غير ثلاثة تشبثوا بالعلم والوطن المفقود على ضفاف النهر الخالد، وليتهم ما فعلوا!!

صناعة مفردات الهزيمة

لقد ساهم الجميع في صناعة هذه الثقافة، ساهمت أشباح الخوف والكبت واليأس، ساهم واقع الفقر والحاجة ولقمة العيش، ساهم رجال الفكر والقانون والإعلام وغيرهم في هذه الصناعة، وصارت هناك كلمات لها مدلولها الشعبي العام عند جمهور الأمة، فـمفردات مثل "أمن الدولة"، "والنظام"، "والحكومة" و "والمخابرات" لم تعد مجرد كلمات تشير إلى مواقع هامة في البنيان المؤسسي للأمة بل صار له مدلول ذهني خطير يؤسس لثقافة التقزم والانكسار والخوف لا من سلطة القانون بل من شبح السلطان الذي ينفذه.

بينما تشير مفردات أخرى مثل "الواسطة"، "والكوسة"، و"المحسوبية" و "الرشوة" إلى مفاتيح الحياة السحرية في مصر الحاضرة!!! هذه المفردات قتلت الأمل لدى النابهين من أبناء الفقراء، بل قتلت الحب والانتماء أيضا، فصرنا نبحث عن وطن الحلم، عن وطن الحب بعيدا عن وطن الغربة! صباح الخير يا وطني، هكذا أقولها لوطني الحبيب المفقود الذي حلمت به فما وجدته، وعندما ظننت أنني وجدته؛ غرق في المحيط وتركني بلا وطن!

إن الأمة المصرية وبعد أكثر من نصف قرن تراجع دورها، فلم تعد قائدة للعرب – وإذا كان من الحق القول بأننا ما زلنا نستطيع التأثير على القرار العربي – فمن البلاهة أن نتصور أن هذا التأثير فعال أو أنه كبير بلْه أن ندعي أنه يصب في مستقبل الأمة؛ فالأمة التي تفتقد الرؤية القيادية وتعيش في ثقافة الهزيمة لا أجندة لها لتعمل على تحقيقها، فمصر التاريخ والمكان والتراث بعيدة كل البعد عن مصر الحاضر، وإلا فأين نحن من القرن الإفريقي واليد الصهيونية في الجنوب الإفريقي؟ وأين نفوذنا في دارفور والصحراء الإفريقية وبلاد الشام والخليج العربي؟؟ أين دورنا في صناعة التقنية، وتصدير القيم؟ أين نحن من نشر النموذج الثقافي العربي فنا وإبداعًا وحضارةً وسلوكا؟ إن أمة كأمتنا ليست أقل شأنا من الأمة الإنجليزية والفرنسية أو حتى الإيرانية والتركية.

إن الأمة المصرية تحلم أيها السادة بعيش سعيد لا على شواطئ مصر الساحرة فهي محجوزة للغرباء والمحظوظين، بل بعيش سعيد في العلب السكنية المسماة مسامحة "بالشقق"، تحلم بوظيفة تكفي الطعام والشراب واللباس المتواضع، بالله هل هناك هزيمة أشد من هذه؟؟ الأمة الرائدة هزمتها الصفوة التائهة فبتنا أمة الذيل ورضينا بذلك لأننا شربنا ثقافة الهزيمة. وها نحن تعودنا الأصفار من صفر المونديال إلى صفر غزة وثقافة الهزيمة تأكلنا!!

إننا لا نحلم بالخلافة ولا بالولايات العربية المتحدة، إننا نحلم بوطن يمنحنا الحياة الأبية، يغرس فينا قيادة الدنيا، يعلمنا أن لا نسجد لغير الله!

Faqeeh2life@live.com
 

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية