مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 عن الإسلام والسياسة (2- 2)
...............................................................


عبد الحليم قنديل
....................


وصف الإسلام 'بنظام الحياة ' و 'الشمول 'و 'الاستيعاب ' صحيح إجمالا، لكنه ينطوى على جملة مآزق، لعل أظهرها ذلك التناقض الذى يثار بين العقيدة او الأيديولوجيا الإسلامية الدينية من جهة، وبين العقائد أو الأيديولوجيات البشرية الوضعية من جهة أخرى، فالأيديولوجيات البشرية توضع أيضا كنظام للحياة مع اختلاف فى درجات شمولها واستيعابها. ومن ثم، وضعت الناصرية ـ مثلاـ كأيديولوجيا وضعية فى قفص الاتهام الدينى، ووصفت بأنها 'جاهلية جديدة'. وصفها سيد قطب مفكر 'الإخوان' بأنها كذلك، وكان سيد قطب يؤكد فى كتابه ( معالم على الطريق ) أن الحكم لله وحده، وأن عقيدة الإسلام لا تتحقق بمجرد العبادات، وأن طاعة الله مطلوبة فى شئون الحياة كافة، وكل ذلك صحيح، لكنه يضيف و' أن أى تشريع أو إيديولوجيا يضعها البشر تعنى الشرك بالله'. وسيد قطب ليس وحده فى اتهام الناصرية وغيرها، إنه مجرد رمز متطرف على آراء الحركات الموصوفة بالإسلامية فى بلادنا، ويلزم لرد الاتهام بالجاهلية أو كفر الأيديولوجيات الوضعية، أن نرد الأمر إلى أصوله.

نعود أولا إلى ' دولة المدينة '، وهى دولة قادها نبى يوحى إليه، وامتزج فيها معنى السلطة الدينية بالسلطة الدنيوية، رغمها نجد استقلالا نسبيا لمعنى السياسة عن معنى الدين، كان الوحى القرآنى ينزل على النبى منظما أمور المعاملات وقضايا التشريع المحضة، وتلك ميزة تفرق بين القرآن المدنى والقرآن المكى الذى اقتصر على الاعتقاد التعبدى، وفى الوقت نفسه طالب القرآن رسوله أن يشاور شعبه فى شئون الحرب والسياسة، إذن وجد مصدر إلهى صاغ جمله من قضايا التشريع الاجتماعى، وقام إلى جواره مصدر بشرى 'وضعى' حث عليه القرآن، كما فى قوله تعالى 'وشاورهم فى الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله'(سورة آل عمران من الآية 159)، وفى كتب السيرة النبوية نقرأ عشرات القصص نزل فيها النبى على أمر أتباعه رغم مخالفتهم لرأيه، أخذ النبى برأى أتباعه فى قصة حفر خندق حول المدينة فى غزوة الأحزاب، وفى اختيار موقع نزول الجيش فى غزوة بدر، وفى تلك المواقف وأشباهها كان الرسول يضع حدودا للتمييز بين ماهو دينى محض وما هو أدخل فى باب الدنيا سياسة وحربا، وكان الرسول يقول 'ما كان من أمر دينكم فإلى، وما كان فى أمر دنياكم فأنتم أعلم به '، ويقول 'أنتم أعلم بأمور دنياكم '، فليس الحكم والقضاء والسياسة دينا وشرعا وبلاغا يجب فيها التآسى والاحتذاء بما فى سنة الرسول من وقائع وتطبيقات على إطلاقها، ويختلف الأمر فيما هو دين من سنة الرسول سواء ما تعلق منها بتطبيق الوحى القرآنى أو الأحاديث المتواترة قطعية الورود قطعية الدلالة. وبعد دولة المدينة، ونهاية الجمع بين السلطتين الدينية والسياسية فى شخص الرسول، أصبحت سلطة الخلافة الراشدة مدنية محضة، وزادت رقعة التمييز فى السياسة عن الدين، بل أقدم الخلفاء والصحابة على تصرفات بالسياسة تناقض ما كان يفعله النبى نفسه، فقد اتفق الصحابة على عهدى أبى بكر وعمر على تعديل توزيع 'خمس الغنيمة'، كان خمس الغنيمة وقت الغزوات والفتوحات يمثل موردا ماليا هاما للدولة الإسلامية الناشئة، وكان الرسول يقوم بتوزيع خمس الغنيمة على خمسة أسهم : لله وللرسول سهم، ولقرابة الرسول سهم، ولليتامى سهم، ولأبناء السبيل سهم، وللمساكين سهم خامس، وكان التوزيع فى عهد النبى يتم على أمر دينى واضح ورد بنص القرآن، ولم يمنع ذلك الصحابة من تعديل نظام التوزيع عملا بتغير الظروف، وتم إلغاء سهمى الرسول وقرابته ووضعا فى الخزانة العامة وخصصا لنفقات الحرب والدفاع، واقتصر التوزيع على أسهم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل.

وحين حدثت الفتنة الكبرى، وتفرقت جماعة المسلمين شيعا فى صراعات المجتمع والسياسة، ظل تقليد التمييز بين ما هو دين وما هو سياسة حاضرا حتى لدى المسلمين الذين رجحت الكفة ضدهم، ويصف الثائر العظيم على بن أبى طالب قتاله مع أنصار معاوية فى معركة 'صفين ' بقوله ' لقد التقينا، وربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا إلى الإسلام واحدة'، ولم يحد عن ذلك الفهم الصافى المميز بين السياسة والدين غير الخوارج، فهم الذين ابتدعوا أسطورة 'الفرقة الناجية'، وأضاعوا الحدود بين الدين والسياسة، وجعلوا حروب السياسة بين المسلمين حروبا دينية بين الناجين والهالكين، وقال زعيمهم 'الخريت بن راشد الناجى ' لعلى بن أبى طالب : ' لاأطيع أمرك، ولا أصلى خلفك، وإنى غدا لمفارقك لأنك حكمت فى الكتاب '. حدث ذلك بعد ظهور نتائج التحكيم فى معركة 'صفين'، وهى قصة سياسية محضة، لكن الخوارج جعلوا من خلافهم السياسى خلافا دينيا، وجعلوا غيرهم من المسلمين 'أهل جاهلية'، ومن مجتمعهم مجتمعا جاهليا كافرا، واعتبروا دار أغلب المسلمين دار حرب، ودعوا إلى 'مفاصلتهم عند العجز وقتالهم عند القدرة ' تماما كما تفعل جماعات المفاصلة 'الإسلامية' هذه الأيام.

ولا نريد ان نذهب ـ كما يذهب البعض ـ إلى أنه ليست هناك البتة إيديولوجيا إسلامية تلزم المسلم، بل هناك أيديولوجيا وشرع ونظام إسلامى بالفعل، لكن المهم أن نتبين حدودها حتى لانضل الطريق القويم، فالإسلام عقيدة التوحيد وتنزيه الله عن التشبيه أو التثليث، وهناك العبادات وأركان الإسلام الخمسة التى يتحدد بها إيمان المسلم وجماعة المسلمين، ثم هناك الشريعة التى أتت بها الآيات 'المحكمات' فى القرآن لا 'المتشابهات' القابلات للتأويل، وتكمل الشريعة أحاديث الرسول ـ شرط أن تكون متواترة قطعية الورود قطعية الدلالة، وبين آيات القرآن الكريم كلها ـ ستة آلاف آية ـ مائتى آية فقط تتضمن أحكاما فى التشريع المجتمعى، أما السنة النبوية التى توصف بالمتواترة فيلزم فيها قول الفقهاء 'نقل الكافة عن الكافة'، وأغلب علماء الأصول ينكرون أن فى السنة ـ عدا ما يتعلق بالعبادات ـ أحاديث متواترة،، ويقول الراحل الشيخ محمد سعاد جلال : ' إن الأحاديث المتواترة، حتى وإن كانت قطعية الثبوت ليست قطعية الدلالة، وربما داخلها الظن من جهة الدلالة، فانتفت قطعيتها من هذه الحهة وهنا تصبح السنة كلها مجالا للاجتهاد وإمكان تطوير الأحكام التشريعية'.

وآيا ما كان الأمر، فإن معنى الشريعة الملزمة أو النظام الإسلامى الملزم يدور فى نطاق محدد، أنه نطاق ماهو قطعى الدلالة فى أحكام القرآن، وقطعى الورود والدلالة من أحاديث الرسول، ولا يدخل فى باب الشريعة الملزمة ـ او باب الشريعة إجمالا ـ اجتهادات المدارس الفقهية الكبرى لدى السنة أو الشيعة، والفقه كله 'وضعى' تداخله اعتبارات المكان والزمان والنوايا والعقول، وقد توقف الاجتهاد الفقهى كله فى القرن الرابع الهجرى بأمر من الخليفة العباسى المستعصم، وهو ما رتب للفكر الفقهى ـ بالتقادم ـ غربة عن أوضاعنا بعد عشرة قرون وتزيد.

جملة القول : إن فى الإسلام ـ شريعة ونظاما ـ دائرتين متداخلتين : دائرة الشمول التوجيهى ودائرة الشمول الإلزامى، الشمول الإلزامى مقيد بالنص، والشمول التوجيهى مفتوح على متغيرات الزمن والظروف، فالاستقلال ـ فيما لم يرد فيه نص ـ هو الصيغة الحاكمة لعلاقات الشريعة بالسياسة، والتفكير الوضعى له سوابقه الممتدة فى التاريخ الإسلامى فقها وسياسة، ومن ثم تكون الأيديولوجيات الوضعية 'غير جاهلية' ما دامت تتوافق مع كليات وضوابط الإيديولوجيا الإسلامية، ولاغبار على مسلم يعتنق 'أيديولوجيا وضعية' لا تتعارض مع نص دينى ملزم.
 

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية