مصرنا


مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الامريكية عن المركز الامريكى للنشر الالكترونى .. والاراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
رئيس التحرير : غريب المنسى
............................................................................................................................................................

 
 

 رد اعتبار الأمة
...............................................................

عبد الحليم قنديل
..........................

ربما لا يصح أن نتحول بالذكري الخمسين لوحدة مصر وسوريا إلي مجالس عزاء، نتذكر المجد الذي كان، ونبكي جمال عبد الناصر وعصره، ونلطم الخدود علي الذي انتهينا إليه من البؤس والضعف وقلة الحيلة والهوان علي الناس. وليست هذه دعوة لطي صفحة الماضي، بل لاسترداد المستقبل، فالماضي لا يعود ببداهة جريان الزمن، الماضي سجن لمن يعيش فيه، الماضي ليس حقلا للأحلام، بل حقل للدروس والعظات، وفهم الماضي ضرورة لتجنب تكرار الإخفاقات، وحلم الوحدة ليس دفتر ذكريات، والأحلام لا تتحقق بذاتها ودون الوفاء بشروطها، وحلم الوحدة لن يتحقق ما دام هكذا، هائما سابحا فوق الحوادث متعاليا عليها، حلم الوحدة لن يتحقق إلا إذا تحول إلي خطة عمل في التاريخ، وفي قلب مجراه المتدفق بالحوادث والفرص.

وقد كان جمال عبد الناصر حالما عظيما، لكنه كان يتحرك بشروط وعي هائل بالتاريخ وفيه، ولم تكن وحدة مصر وسوريا حدثا ولد من حلم علي طريقة صيد الفراشات الملونة، بل كانت وعيا بشروط الأمن والبقاء واتصال الحياة ذاتها، صحيح أن وحدة عبد الناصر لم تدم غير ثلاث سنوات ونصف السنة، لكنها كانت استئنافا في التاريخ لوحدة جمعت مصر وسوريا بالذات لمئات السنوات، كانت مصر وسوريا ـ مع غيرهما ـ ولايات في دولة خلافة ذات طابع إمبراطوري، وحين ضعف مركز الخلافة في بغداد، كانت الحقائق بثقل الجغرافيا والتاريخ تنقل الراية إلي القاهرة، وطوال 650 سنة سبقت الغزو العثماني، كانت مصر وسورية ـ الكبري ـ وحدة سياسية واحدة، ودارت أعظم المعارك ضد الغزو الأجنبي مع وحدة مصر وسورية، معارك صلاح الدين الأيوبي ومعارك قطز وبيبرس، معارك الهزائم الكبري للتتار والصليبيين، بعدها أرخي الليل العثماني الطويل سدوله علي المنطقة، وأضعف نداء العروبة فيها، وإلي أن حصلت مصر بهبة شعبية علي استقلالها النسبي، كانت ثورات مصر بعلمائها ونقبائها تحقق مرادها، نجحت في دحر حملة نابليون ثم حملة فريزر، وحكم مصر محمد علي الألباني الذي لا يجيد حرفا في اللغة العربية، لكنه ـ بأمارات الطموح في تكوينه ـ كان قارئا عظيما لإلهام الجغرافيا والتاريخ، أضاف فتح السودان لخرائط العروبة الملتصقة بالإسلام، وشن حملات السلاح إلي الشرق العربي وإلي الجنوب، وكان ابنه إبراهيم باشا ـ قائد الجيوش ـ عنوانا علي عروبة طافحة مبكرة، وربما تأثرت بطبيعة عصره التي توالت بقوميات أوروبا إلي استقلال فظهور متصارع علي حلبة التاريخ، كان إبراهيم باشا يحمل لقب ساري عسكر عربستان ، أي قائد عام الجيوش العربية، ثم كانت تلك المنازلة الكبري التي اجتمعت فيها خلافة الآستانة المريضة مع جيوش أوروبا لهزيمة الجيش العربي الذي بدأ تكوينه من مصر، وسقطت نهضة محمد علي، وسقطت بعدها مصر نفسها ضحية للاستعمار البريطاني، وحجز عنها الدور قرابة قرن من الزمان، وإلي أن ظهرت ثورة عبد الناصر، عادت مصر إلي سباق التاريخ، وعاد معها حلم العرب في التوحيد، وفي ظروف أكثر سوءا وتعقيدا، فقد كانت الأمة قد جرت تجزئتها إلي أقطار باتفاق سايكس ـ بيكو الاستعماري، جري رسم الحدود بالقلم والمسطرة، ودون حواجز من طبائع قوم أو طبيعة جغرافيا، وجري قطع التواصل الجغرافي إلي الشرق بإنشاء إسرائيل، وزحف الاستعمار الأمريكي ليرث مناطق النفوذ الفرنسي والبريطاني القديم، وأضيفت ثروة البترول إلي زحام من دواعي الصدام الدولي الجاري علي منطقة هي قلب العالم بامتياز، ودارت الحرب سجالا، انتصار السويس قاد لانتصار الوحدة، وتكتل مشايخ البترول مع الاستعمار انتهي لجريمة الانفصال، ورد عبد الناصر بثورة التغيير الاجتماعي والتنمية المستقلة، وتجاوز هزيمة 1967 إلي وحدة سلاح مصر وسورية حتي نصر تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وهكذا في دراما هائلة أخفقتا فيها وانتصرنا، وجمعت هدف الوحدة إلي صيانة الاستقلال وبناء النهضة، فلم تكن الوحدة عند عبد الناصر مجرد جمع لأقطار ولا لأرقام، بل كانت صنوا لتغيير شامل في الحياة العربية ذاتها، كانت مشروعا لاقتحام العصر خذله انقلاب السادات بعد النصر. سقط اعتبار مصر واعتبار الأمة في اللحظة ذاتها، وانتهينا إلي تفكيك شامل وبقايا صور، وزحف الاستعمار الأمريكي الإسرائيلي هذه المرة، بدت الطرق سالكة كأننا في الربع الخالي، والسكين سارحة في الزبد بحد الاختراق الخفي ثم بحد السلاح الظاهر، ولم يكن ممكنا لبغداد أن تسقط بالسلاح، لولا أن سقطت القاهرة بإغواء السياسة قبلها بربع قرن، بدأ الحلم العربي في الغربة، تماما كما انتهي دور مصر إلي غربة بالغياب، وإن بدت ظاهرة المقاومة متألقة علي جبهات السلاح في لبنان وفلسطين والعراق، لكن المشهد في مجمله ظل موحيا بالأثر الفادح للغياب المصري عن دور يليق، وبدت قاعدة نهوض فسقوط مصر قاعدة عربية بامتياز، في غيابها الحديث الأول ـ بعد نهضة محمد علي ـ جرت تجزئة الأمة إلي أقطار باتفاق سايكس ـ بيكو، وفي غيابها الحديث الثاني ـ بعد نهضة عبد الناصر ـ جرت تجزئة الأقطار إلي أمم بمشروع الشرق الأوسط الموسع، وبالخرائط المعدة إسرائيليا منذ اوائل الثمانينيات، وإلي حد بدت معه فكرة استمرار وحدة كل قطر عربي في ذاته موضعا للشك، فالهدف: إذابة المنطقة كلها في حمض كبريتي الشرق الأوسط الموسع، وتركها لتحلل الرمم والجيف، الهدف: ضرب فكرة وجود أمة واحدة أو غالبة علي خريطة العالم العربي، والقفز عليها إلي افتراض وجود ألف أمة، وتحويل الطوائف إلي أمم لها أساطيرها وتاريخها ورموزها، وفي انفصال تام يحجزها بالعداوة عن غيرها، بل وعن الطوائف ذاتها في أقطار أخري، وافتعال الأعلام والأناشيد في غابة ضجيج بلا نهاية، والتحول بخريطة الأمة إلي جغرافيا ملتبسة مبرقشة كجلد النمر، وبالجملة: جري تهميش روابط التوحيد، ونفخ النار في عناصر تمايز واردة ومبتعثة من رقاد، ومن أحط مراحل تاريخنا، وهكذا توالت الحروب الأهلية وتداعت حرائقها، ومن لبنان إلي الصومال فالسودان والعراق، وفي الوقت نفسه الذي سكتت فيه أصوات المدافع النظامية علي جبهة الحرب مع إسرائيل.

والتركيز علي أولوية الدور المصري نهوضا وسقوطا، واعتباره المعيار الحاسم، لا يعد نوعا من الشوفينية الذاتية، فالوطنية المصرية ـ ربما هي الوحيدة في العالم العربي ـ التي هي قومية عربية بامتياز، ولو لم توجد القومية العربية فرضا، لكانت الوطنية المصرية قد خلقتها خلقا، ليس فقط باعتبارات الأمن، ولا باعتبارات الثقل السكاني الراجح لبلد يقترب بحجمه من ثلث الأمة العربية، بل ـ أيضا ـ بالتكوين الثقافي الغني والجغرافيا الراسخة، فالتكوين المصري ـ وقريب منه التكوين الفلسطيني ـ هو الأعظم تجانسا في القلب العربي، وليس فيه تحيزات بالجغرافيا تنمو بثقافات منفصلة لطوائف مغايرة في الدين أو في الملة، وإلي حد تبدو معه مصر نموذجا مبلورا هاديا في اتصال السعي لتوحيد الأمة، فمصر بلد سني وهواها شيعي، ومصر فيها الكتلة المؤثرة من المسيحيين العرب، ولا يزال النداء الغالب لمسيحييها موصولا بمقولة مكرم عبيد الخالدة، كان مكرم أهم سياسي مصري مسيحي علي خريطة القرن العشرين، وكانت نزعته العروبية غلابة، وكان يصف نفسه بالقول أنا مسيحي دينا. مسلم وطنا ، فالعروبة ـ أو الإسلام الثقافي ـ هي الحد الأوسط المشترك للهوية الجامعة، ورغم محاولات افتعال الصدام مع الفكرة العربية، وافتراءات السادات من نوع العرب جرب ، ومساعي أسرلة الشعور باتفاق كامب ديفيد، وتسييد ثقافة المارينز، ومليارات المعونة الأمريكية وتمويلها الأجنبي الهادف لاختلاق مشكلة قبطية مشوبة بإيحاءات القسمة، والخلط بين الاحتقان الاجتماعي والاحتقان الطائفي، رغم ذلك ـ وغيره ـ لا تزال الكتلة المصرية علي حسها العربي الغالب بامتياز، ولم يجرؤ أحد علي المس بنص المادة الأولي في الدستور، والمصاغة في صورة التزام تاريخي نادر، والمؤكدة لحقيقة أن الشعب المصري جزء من الأمة العربية يسعي لتحقيق وحدتها الشاملة .

وربما تبدو موازين السياسة المصرية وميولها في غير صالح القومية العربية، فالتيار القومي والتيارات العروبية إلي اليسار تبدو أضعف في شعبيتها الآن، وبالقياس إلي ما كان، والتيار الإسلامي علي قدر ظاهر من الغلبة، لكن التيار الإسلامي ـ في غالبه ـ لم يعد علي خصومته القديمة للعروبة ومطامحها، وصار أقرب لفكرة القومية العربية، وأقرب لطلب هدف التوحيد العربي، وعلي العكس مما بدا عليه الأمر زمن الصدام مع نظام عبد الناصر وحركة القومية العربية، ففي البرنامج السياسي الجديد لجماعة الإخوان في مصر، يتقدم هدف الوحدة العربية علي هدف الاتحاد الإسلامي، وهو تطور بالغ الأهمية، ويذكر بنبوءة مبكرة لباحث أمريكي مرموق عرف باهتمامه الدؤوب بالقضية العربية، الباحث هو د. مالكولم كير، وقد قتل أواسط الثمانينيات في بيروت الحرب الأهلية، كان كير مديرا لمركز دراسات عربية وإسلامية بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وحرر ـ ربما ـ أول بحث من نوعه عن سيناريوهات المستقبل في مصر والعالم العربي، وأصدر كتابا ـ لم يترجم بعد من الإنكليزية إلي العربية ـ بعنوان الأغنياء والفقراء في العالم العربي ، شارك في الكتاب عدد من كبار المفكرين الاجتماعيين والاقتصاديين العرب، وكتب كير فيه دراسة بعنوان ثلاثة سيناريوهات لمستقبل مصر ، ويتضح من النص أنه كتب قبل اغتيال السادات وبعد ثورة الخميني في إيران، أي أنه كتب في شهور العام 1980 علي أغلب الظن، وقد تحدث عن إمكانية استمرار سيناريو السادات ـ بالرجل أو بغيره ـ إلي أوائل القرن الحادي والعشرين، ووصف السيناريو بأنه أقصر الطرق لتخريب دور مصر، وأقرب الطرق إلي البؤس التاريخي، وتوقع للقاهرة ـ عند ختام القرن الذي مضي ـ بأن تكون لؤلؤة في القلب وبؤساً في الأطراف ، وقد تجاوز ما جري نبوءة كير، فلم نر اللؤلؤة وإن تراكم البؤس، ولأن مصر ـ في عقيدة كير ـ دولة دور، ولا تنهض بدونه، فقد رسم صورة لمصر مع احتمالات العودة للسيناريو الناصري، وأبرز في الصورة مشاهد التصنيع الواسع والجيش القوي والسعي للوحدة العربية، ثم لم يغب عن كير ـ قبل الآن بثلاثين سنة تقريبا ـ احتمال أن تتجه مصر إلي سيناريو إسلامي، كان توقعه وقتها ان تكون الغلبة لمجاهدين إسلاميين علي طريقة الثورة الإيرانية، ووصف مصر تحت الحكم الإسلامي المحتمل بأنها ذاهبة إلي أزمة، ربما بسياسة انغلاق وتشدد ديني تتناقض مع طبيعة الدور، وتوقع ـ وهذا لافت جدا ـ أن يتحول الحكم الإسلامي من داخله إلي حكم ناصري الهوي، أي أن يشده الطموح إلي التصنيع والجيش والتوحيد العربي، ورسم خريطة توقعات عن إمكانية إتجاه الحكم الإسلامي ـ ذي الهوي القومي ـ لوحدة إلي الغرب مع ليبيا، أو إلي وحدة عابرة للفاصل الإسرائيلي باتجاه الخليج، والنبوءة المبكرة مثيرة حقا، فهي تثبت الطبيعة القومية الكامنة للتيار الإسلامي، وتدعم ظننا بأن صعود التيار الإسلامي ـ الذي بدا خصما من حساب المشروع القومي العربي ـ ينطوي علي نوع من رد الاعتبار للأمة، وأن فكرة القومية العربية قد لا يصح ان تقاس بظواهر الضعف التنظيمي لتياراتها الأسبق تاريخيا في طلب الوحدة، وأن استعادة مصر لدورها التوحيدي ممكنة مع تغيير النظام السياسي، ولو حتي بزخم التيار الإسلامي.

ربما لذلك تبدو أهمية الالتفات لموازين التأييد الشعبي في سباق طلب الوحدة بوسيلة الديمقراطية هذه المرة، وتبدو المصالحة بين التيارين القومي والإسلامي ملحة، ليس بمصافحات الكاميرات علي طريقة ما يجري في المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي، بل بتحالف ميدان، يضم إليه الليبراليين واليساريين من ذوي الهوي القومي، ويعطي الأولوية للهدف الوحدوي المجمع عليه، ويبدأ من مصر أولا، فرد الاعتبار لهدف وحدة الأمة يعني ـ ببلاغة الدرس التاريخي ـ رد الاعتبار لدور مصر، وفي ذلك ـ ومثله ـ فليتنافس المتنافسون علي حمل النداء، وليس علي بلاغة الخطابة في مجالس العزاء.

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية