مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 في نعي السودان

 

البشير

 

عبد الحليم قنديل
.....................

بدت السيدة هيلاري كلينتون كأنها تحمل سلة ورود للسودان، بينما هي تختفي خلف صورتها الحقيقية كحفارة قبور بامتياز . فقد دعت هيلاري السودان الى الانتحار مقابل تأشيرة دخول إلى جنة الرعاية الأمريكية، ووعدت نظام الخرطوم برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب، وبوقف العقوبات الأمريكية، وربما إنقاذ رأس الرئيس البشير من مقصلة محكمة الجنايات الدولية، أي أن تتفضل واشنطن بالعفو عن الرئيس السوداني مقابل رأس السودان نفسه، بتسهيل انفصال الجنوب في استفتاء أوائل 2011، وحـــــل مشكلة منطقة أبيي المتنازع عليها، والحل المشار إليه يعني أن يتخلى السودان عن منطقة ثروته البترولية، أي أن يصبح مفلسا، ثم أن يســــهل انفصال الجنوب في بداية لعبة 'دومينو'، يصبح بها السودان مـــفرخة دول قزمية، وتتراجع حدوده إلى مداخل مدينة الخرطوم، ووقتها لن تكون هيلاري في منصبها الحالي وزيرة خارجية للبيت الأبيض، ولن يكون بوسعها وضع سلة الورود على قبر السودان الذي كان.

والذي يراقب حفاوة واشنطن بانفصال جنوب السودان، وتهديدات الرئيس أوباما باستخدام القوة 'الدولية' إن لزم الأمر، ووعود السيدة هيلاري بسلال الورود المميتة، الذي يراقب ما يجري، يتهيأ له أن واشنطن انجبت بنتا أخرى في المنطقة غير إسرائيل المدللة، وأن سيلفا كير، ذا البرنيطة، صارحبيب قلب أمريكا تماما كبنيامين نتنياهو، ففي الحالتين تنتصر واشنطن لشيء شاذ لا تسنده حقائق ولا حقوق، قصة إسرائيل معروفة، فهي كيان اغتصاب واستيطان إحلالي، بينما دولة جنوب السودان لا تبدو كذلك في الظاهر، فالذين يقيمون بها هم أهلها الأصليون، يطحنهم بؤس وتخلف قل نظيره في غير أفريقيا، لكن انفصالهم عن المجموع السوداني لا يبدو خروجا من جحيم، ولا دخولا في جنة، ثم أنه لا يستند إلى مبررات تكفل حق تقرير المصير بأي معنى، فهم ليسوا قومية واحدة، بل جماعة قبائل بدائية متنافرة تعيش في فقر وعوز، ولكل قبيلة لهجاتها وأديانها، لا يجمع بين افرادها سوى بشرة داكنة تصلهم بغيرهم على خرائط التنوع السوداني، وهم ضحايا احتجاز استعماري طويل الأمد، حجزهم طويلا عن الاتصال بغيرهم، وتركهم داخل سجنهم التاريخي، ولم تتوافر لهم فرص الاحتكاك والتواصل والتفاعل والخروج من الأسوار إلا بعد استقلال السودان، وهنا جرت المفارقة المؤسفة، فالاستعمار الذي احتجزهم هو الذي راح يستثمر بؤسهم، ويستقطب نخبا متغربة خاضت حروبا عصفت بأمان السودان، وافتعلت حق تقرير مصير في غير محل من الإعراب السياسي، وزورت صورة راح المستعمرون الجدد يروجون لها، ويحتفون بها، صورة الجنوب الأفريقي المسيحي في مواجهة الشمال العربي المسلم، صورة الجنوب الناطق بالانكليزية كأنه من أهل كامبردج، مع أن عدد المسلمين في الجنوب السوداني يساوي، إن لم يزد عن، عدد المسيحيين هناك، ورغم أن انتشار اللغة العربية في الجنوب أكثر وأعمق من إغراءات اللغة الانكليزية، بينما الأغلبية العددية في الجنوب لا تزال على لهجاتها المتفرقة ودياناتها الأفريقية، أي أن أهل الجنوب خليط بشري لا يختلف في تنوعه عن التنوع السوداني عموما، وهو ما يعني أن جون قرنق لم يكن قائد حركة تحرر قومي ولا يحزنون، وكذلك سيلفا كير وجماعته التي انتفخ فسادها حتى قبل أن تقوم دولته .

واشنطن إذن، لا تعطف على اهل الجــــنوب، ولا يعنــــيها من الأمر كله سوى تمزيق السودان، وافتعال دولة جــــنوب، تكون في الوظيفة لا في التكوين، بمثابة إسرائيل ثانـــــية، تحجز التكوين العربي عن سلاسة الاتصال بعمقه الأفريقي، وتكــــون بمثابة لحن افتتاحي لتمزيق السودان إلى عدة دول، دولة أخرى في دارفور التي تساوي مساحتــــها مساحة فرنسا، ودول أخرى ربما في كردفان وجبال النوبة، والـــــهدف : إفناء عروبة السودان، وانهاء دوره الواصل بامتداد الجغرافيا إلى القلب الأفريقي، وخصمه من الاحــــتياطي الاستراتيجي للوجود العربي الإسلامي، وإكمال دورة خنق مصر، بزرع دول معادية على خط النيل، تكسب قوتـــــها من الارتــزاق الســـــياسي الـــــدولي، وتمنح مواردها الطبيعية لأمريكا وأخواتها، وتستعير سلاحها من إسرائيل، وتنضم للجامعة الإسرائيلية وتترك الجامعة العربية .

هل نلوم أمريكا وإسرائيل؟ ربما لا معنى ولا فائدة للوم، فالسياسة مصالح وخطط ومؤامرات، ولوم الشر لا يعني بالضرورة، الانتصار للخير، والمؤامرات لا تؤتي أكلها بغير عون داخلي، فقد لعبت النخب المتغربة في الجنوب دورها بتزوير قضيته، ثم أن نخب الحكم في العواصم العربية المجاورة لعبت أدوارا أخطر، ربما من حيث لا تريد أو لا تدري، وكلنا يتذكر أن دولة عربية بترولية مجاورة للسودان لعبت دورا في شراء السلاح لجماعة جون قرنق، لا لشيء إلا على سبيل النكاية في حاكم الخرطوم، وكلنا يتذكر أن مصر وهي الدولة العربية الأكبر، تخلت عن السودان في أحرج أوقاته، رغم أن السودان كان شأنا مصريا خالصا، فقد رسم الجيش المصري، على عهدي محمد علي وإسماعيل، خرائط السودان الحالية، ووقع السودان كما مصر تحت الاحتلال البريطاني الذي عزل الجنوب في سجنه، وحين تقرر للسودان حق تقرير المصير، فقد استقل السودان بكامل وحدته الجغرافية، لكن مصر لم تغادر دورها هناك، دورها التعليمي والمائي والاقتصادي والسياسي أيضا، فسلامة السودان، في الوعي الوطني المصري، صمام أمان لوجود مصر ذاتها، وظلت المعادلة سارية بأثرها وبمنطوقها، وهو أن ماء النيل يجري شمالا إلى مصر، وأن ماء السياسة يتدفق جنوبا إلى السودان، ومع انهيارات الدور المصري في سباق التاريخ، وفي المنطقة بالذات، وإلى الجوار في الجنوب، وطلاق مصر للدور الأفريقي إفساحا في المجال لإسرائيل بعد كامب ديفيد، وكسبا لرضا أمريكا، التي هيمنت على قرار السياسة والاقتصاد في مصر، مع التحولات المميتة للدور المصري، كانت السياسة المصرية تنسحب من المشرق العربي، وتنسحب من السودان أيضا، بل وتنسحب من أولويات مصر ذاتها، والمحصلة: أن السودان راح يعاني منفردا، وصعدت إلى حكمه نخبة جدعت أنف السودان وهي تتوهم أنها تصلحه، صحيح أنها حاربت التمرد الجنوبي بالسلاح، لكنها لم تلتفت إلى حساسية التنوع السوداني، وأساءت استخدام شعارات الشريعة الإسلامية، وفككت عناصر الوطنية السودانية الناشئة، التي يلعب فيها الإسلام والعروبة دور العنصر التوحيدي، وبطريقة الانتشار والتشرب لا بحد القهر، وفي بيئة امتزاج عربي أفريقي تحتاج أمدا طويلا لقطف ثمارها، وبدلا من إفساح المجال لانصهار تاريخي تراكمي، أقامت خطوط الفصل والعزل النفسي، وتلاقت، من حيث لا تدري، مع خطط الانفصال المدبر بالوحي الخارجي، فلا الشريعة كسبت ولا السودان استقر، ثم راحت نخبة الإنقاذ 'الإسلامي' تأكل بعضها، وتتفرق بين البشير والترابي، وتسعى للاستئثار بالسلطة على حساب وحدة السودان نفسه، فسارع البشير إلى عقد اتفاق 'نيفاشا'، وأقر للنخبة الجنوبية المتغربة بحق تقرير المصير المزور، وأعطى قرنق وخلفه سيلفا كير حق حكم الجنوب مقابل تركه يحكم الخرطوم، بينما راحت جماعة الترابي تلعب في دارفور، وكونت حركة 'العدل والمساواة' التي قد تطالب غدا بحق تقرير المصير المزور أيضا، أي أن البشير، في لعبة مقامرة، انتهى بالجنوب إلى مصير الانفصال، بينما الترابي، على سبيل الكيد للبشير، وضع بذرة انفصال دارفور، والبقية التفكيكية في الطريق .

وقد لا يكون الوقت مناسبا لنصيحة، فليس ثمة من يأخذ بالنصح، لا في الخرطوم ولا في القاهرة، ليس ثمة من يغير إلى أن يتغير، وحتى تأتي ساعة التغيير ويحل تاريخه، فليس من محل سوى لنعي السودان الذي ينحل.
 


06/11/2014

مصرنا ©

 

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية