مطبوعة الكترونية عربية مهتمة بموضوع المواطنة وتداول السلطة القانونى وحرية التعبير  فى العالم العربى  .. تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية عن المركز الأمريكى للنشر الالكترونى .. والأراء الواردة تعبر عن وجهة نظر أصحابها.
............................................................................................................................................................

 
 

 الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى حوار حول المستقبل - 2
...............................................................

 تقرير «جولدستون» حول الجرائم الإسرائيلية فى غزة تم إفراغه من الجزء الفاعل.. وارتضينا نزع «مخالبه وأنيابه»

حوار مجدى الجلاد
....................


كان تقرير «جولدستون» هو نقطة انطلاق فى هذا الجزء من الحوار، لتشخيص الوضع الدولى للعرب: وزنهم سياسياً، وتأثيرهم عملياً، وطريقة تفكيرهم، وأداؤهم فى قضايا لا يحاربون فيها وحدهم، ولا يفتقدون المتعاطفين والمؤيدين دولياً.

لكنهم يهدرون كل شىء، يساعدون المجرم على الهروب بأقل عقوبة ممكنة، رغم أن ميدان المعركة كان مفتوحاً على مصارعه أمامهم لتحقيق إنجاز حقيقى، وإدانة كاملة، وكان سيكفيهم وقتها شرف المحاولة حتى لو عجزوا عن تنفيذ مسودة الحكم وتحصيل فاتورة العقاب.

يرى هيكل أننا نخاف أكثر من اللازم، وأصبحنا معلقين بين الاعتراف والإنكار، ولا نطيق الانكسار فى الوقت الذى لا نستطيع فيه الانتصار، ووصلنا إلى المرحلة الأسوأ، غير القابلة للحركة ولا الحياة، ولا الفعل، وهى مرحلة ترجمتها الحقيقية «الضعف»، وهى حالة أخطر من الجهل والتعمد، لكنه يعود ليرسم لك ملامح النهوض من حالة كتلك، يذكرك بقواك الجغرافية والبشرية والتاريخية والإنسانية، يذكرك بصداقاتك الدولية وحقوقك المشروعة ومواردك وقواك الكامنة والناعمة وغير المستغلة..

ليست كل مواجهة حرباً، لكن لا يليق أن يصير التفاوض هو خيارك الوحيد، لتدور فى حلقة مفرغة، وتجد نفسك فجأة تتفاوض من أجل التفاوض وفقط.

ستعرف الآن أننا خذلنا أنفسنا، وقبل أن نفعل خذلنا «جولدستون»، القاضى النزيه الذى تصرف باحتراف، فرصد كل شىء، وحكم فى القضية لصالحنا، فإذا بنا نتخلى عن حكمه، ونقبل إفراغ تقريره من مضمونه، ونقبل إدخاله ـ بتعبير هيكل ـ «غسالة كهربائية» ليخرج فى صورة أخرى غير ما كان عليه، بلا وعيد للمعتدى، ولا بشرى للضحية.

■ ما رأيك فى الأحداث التى رافقت مناقشة تقرير جولدستون؟
- التقرير الأصلى الذى كتبه جولدستون فى وصف الأحوال موجود، لكن الجزء الفاعل من التقرير، وهذا ما فات علينا، لم يعد موجوداً، لأن المؤتمر الموسع للمجلس الدولى لحقوق الإنسان توصل إلى إجراءات غير التى انتهى إليها جولدستون.
حتى التصور الذى كنا نقاتل من أجله، وهو تقرير جولدستون كما كان، وكما كتبه وبتوصياته، لم يعد موجودا، حتى الإجراءات التنفيذية المختلفة التى تضمنها التقرير لم تعد موجودة.

■ لكن الشائع فى وسائل الإعلام غير ذلك؟
- التقارير من تلك النوعية، تنقسم إلى جزءين، الأول يعرض الحقائق كما هى، والثانى يقدم التوصيات الإجرائية التى يراها من قام بالإشراف على التحقيق.. والحقيقة أن تقرير جولدستون لم يترك شيئا من جرائم الحرب التى تدين إسرائيل، كل ما يمكن أن يتصوره أحد، وصفه جولدستون فى تقريره الذى كتبه بنزاهة قاضٍ، فالنص يتضمن أمورًا تشير إلى أنه رجل شريف يسعى لتقديم الحقيقة.

■ هل يمكن أن نعرض جزءًا مما جاء فى التقرير الأصلى؟
- مثلاً.. صدّر جولدستون تقريره فى خطابه الذى ألقاه يوم ٢٩ سبتمبر الماضى بقوله: «أنا وزملائى فكرنا كثيرًا فى قبول هذه المهمة، لأننا نعلم أنها مهمة صعبة جدًا، فنحن نرى أن العدل أهدر فى العالم فى هذا الوقت، وأن فكرة القانون فى حد ذاتها تعرضت لمخاطر، وأن فلسفة العقاب فى المجتمع الدولى ضاعت»، ويضيف: «كنت مترددًا فى قبول الأمر، لكننى أحسست بواجب إنسانى، هو الذى دفعنى إلى الموافقة».. أما مشروع القرار الذى اقترحه جولد ستون، فقد استند إلى أن ما حدث كان جريمة ضد الإنسانية، ويقول صراحة إنه رصد أشياء مخيفة فى الحرب على غزة، واستعرضها فى الآتى:
إن ما كان مقصوداً هو تدمير مجتمع بأسره، فقد حدث قصف للمدنيين، وضُربت أهداف مدنية وتم قتل مدنيين عن عمد، وبطريقة عشوائية أحياناً، واستعمال رهائن فلسطينيين كدرع للهجوم، وتحطيم البنية الأساسية، من ضرب للمدارس والمستشفيات والطرق والجسور ومبانى الشرطة والمحاكم والوزارات، ومشروعات الصرف الصحى والمرافق، وضرب أفراد الشرطة وتعقبهم، وحرق الأراضى والمحاصيل الزراعية، حتى مزارع الدواجن..
وهو الأمر الذى يتعجب له جولدستون، وكل هذه أمور يوضح من خلالها الرجل ويوُصف لماذا قال إن ما حدث جريمة ضد الإنسانية، ويحدد توصياته والإجراءات التنفيذية فى هذا الشأن، وهو أمر مهم جدا.

■ ماذا عن التوصيات التى قدمها؟
- أولا يقترح جولدستون كشف حساب عما جرى من انتهاكات للإنسانية، ويطلب تعويضات «preparations»، وهى مسألة أخرى مهمة، كما أشار إلى حدوث انتهاكات خطيرة للإنسانية serious violations ، وتحدث عن الحصار وطالب بضرورة فعل شىء ما فى ذلك، وتحدث أيضاً عن استعمال أسلحة غير مشروعة، وطلب تحقيقا من الأمم المتحدة فى كل هذه الأمور،
كما طالب بحماية المدنيين وحماية موظفى وممثلى الأمم المتحدة والمدافعين عن حقوق الإنسان فى هذه اللحظة، ومن الأمور المهمة جدا التى اقترحها، تقديم مشروع قرار يصدره مجلس الأمن، تنص المادة الأولى منه على أنه يُطلب إلى السكرتير العام أن يُخطر مجلس الأمن، «مجلس الأمن مش الجمعية العمومية»، لسه يُخطَر مجلس الأمن طبقا للمادة ٩٩ من ميثاق الأمم المتحدة، بضرورة مناقشة مجلس الأمن للتقرير، والجزئية الثانية التى يراها جولدستون هى أن الانتهاكات التى وقعت تستوجب إخطار المحكمة الجنائية الدولية لكى تكون جاهزة لبحث هذه القضية عندما يطالبها مجلس الأمن بذلك، والأمر الثالث هو إخطار الجمعية العامة للأمم المتحدة لكى تكون على علم بالأمر.

■ كيف ترى الطريقة المثلى لاستخدام هذا التقرير لمصلحة القضية الفلسطينية؟
- لست رجل قانون دولى، ويمكن للخبراء أن يتحدثوا فى هذا الشأن، رأيت الفلسطينيين والعرب يهنئون أنفسهم ويتحدثون عن أنهم انتصروا وأن التقرير انتصار للإنسانية وهذا لم يحدث، لأن البند الأول من مشروع القرار الذى صدر اكتفى بأمور لا خلاف عليها، مثل إدانة إسرائيل كقوة محتلة عرقلت مهمة اللجنة فى التفتيش، وهذا أمر ليس لدى اعتراض عليه، أما البند الثانى فى المشروع فينص على «welcomes the report of the independent fact finding international mission»، أى الترحيب بما جاء فى تقرير جولدستون، وكأنهم يقولون للجنة الدولية «تسلمنا تقريرك وشكرا على مهمتك ومع السلامة خلاص إمشوا»،
وفيما بعد يؤيد أو يوافق على الحقائق التى تضمنها التقرير، ويرى أن منظمات الأمم المتحدة كل فى حدود اختصاصه تبحث هذا الموضوع، ويوصى الجمعية العمومية بأن تأخذ التقرير فى اعتبارها فى الجزء الأساسى من دورتها الـ٦٤، التى ستنعقد فى شهر مارس المقبل، فى الوقت الذى نصرخ فيه من ذلك التأجيل، ويطلب كذلك من الأمين العام للأمم المتحدة أن يقدم تقرير اللجنة إلى مجلس حقوق الإنسان فى دورته الـ١٣، التى ستنعقد فى مارس أيضاً وهذا يعنى أن أى تأثير عملى وقوى للتقرير مؤجل إلى مارس المقبل.

■ تقصد أن مشروع القرار لا يستحق الاحتفال؟
- لقد هللنا فى البداية وكنا معترضين على إعفاء إسرائيل من الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، ونخشى أن «يُبَرد» الموضوع حتى نصل إلى شهر مارس، لأنه كلام غير معقول، وعندما نصل إلى شهر مارس سيُحال إلى الجمعية العمومية أو إلى مجلس حقوق الإنسان، وبالتالى نكون بذلك نتحدث عن قضية أخرى تماما، وعن مناخ مختلف، ولا أعلم وقتها ما قد يحدث، ربما يُرفض التقرير دوليا.

■ ألم نحقق مكاسب ملموسة من القرار؟
- أبدًا.. توصيات جولدستون أحضروا لها بدلة جديدة، وتم تنظيفها فى غسالة كهربائية، فصدرت الإجراءات فى حالة كَرْب، كأنه جرى كيها ولفها بأوراق سوليفان ملونة.. وكما قلت فإننى لست خبيرًا قانونياً، ما أدركه فقط أننا حصلنا على وهم، وسرنا وراءه، ظنًا منا أننا نمتلك شيئًا حقيقيًا.. هناك بيننا كثيرون رأوا هذا ووقفوا يهنئون الفلسطينيين ويتصرفون وكأن شيئا تحقق.

■ معنى ذلك أن الفوز الذى كان يمكن أن نحققه من وراء تقرير جولدستون مهدد بالضياع؟
- ما نفعله حاليًا هو استمرار لسياسات، ومنطق أخذنا بعيدًا عن الواقع.. وها نحن نضيع الفرصة بقبولنا النص الإجرائى كما صدر.. وسيحتج هؤلاء بأننا لو كنا ذهبنا بالتقرير إلى مجلس الأمن، فإنه كان سيواجه الرفض بالفيتو الأمريكى.. وأرد عليهم بقولى: «أنا عارف إنى لن آخذ شيئاً، ولا أقدر على أخذ إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية»، لكن على الأقل سنكتشف حقيقة أننا لابد أن نعتمد على أنفسنا، وأن الخداع وتغطية الفشل بأى عملية تجميل لم يعد مجديًا، والأفضل أن نواجه وبوضوح ما هو أمامنا..

■ هل تعاملت الأطراف العربية المختلفة مع التطورات والأحداث بجهل.. أم أنها تفهم ما يحدث وتتعمد التجاهل؟
- مشروع القرار العربى أعدته السلطة الفلسطينية، ونحن بالنيابة عن دول عدم الانحياز، ونيجيريا بالنيابة عن أفريقيا، وهو يشبه مشروعات قرارات كثيرة جدًا.. وينطبق على ما يحدث مقولة: «لا أطيق الانكسار، ولا أستطيع الانتصار»، هذا هو حالنا، معلقون بين الاعتراف والإنكار.

■ هذه صورة قاتمة للغاية لما كان الناس يرون فيه انتصارًا؟
- أسوأ شىء أن تصل إلى مرحلة غير قابلة للحركة ولا الحياة ولا الفعل، ولا يمكن هنا إخفاء الحقيقة فالصورة واضحة أمام كل الناس الذين تعلقوا بتقرير جولدستون عندما رأوا فيه العدل والإجراءات الواضحة والمحددة زمنياً، فجاء البعض منا وأضاع التحديد الزمنى، وفى الإجراءات الجديدة التى وضعها قرار مجلس حقوق الإنسان فإنه لم يرد فى القرار بعد تعديله أى ذكر للمحكمة الجنائية.. ولا أسمى ذلك جهلاً أو تعمداً، بل أسميه ضعفاً.

■ هل الضعف أخطر من الجهل والتعمد؟
- الضعف قد يؤدى إلى مشكلات كبرى وخطيرة، فالضعيف ينكر ما يراه ويدارى ما يخشى ظهوره، ويرتكب أشياء أخطر ألف مرة مما جرى.. فنحن سنظل نضرب فى التيه ولا نعلم فى أى طريق نسير.
إن الشىء المدهش الذى لفت نظرى فى جلسة مجلس حقوق الإنسان، هو اختلاف رنين الألفاظ عما ورد فى التقرير الأصلى لجولدستون، لذلك أحضرت التقريرين وقارنت بينهما.

■ وما رأيك فيما دار فى الجلسة نفسها؟
- الجلسة بدأت فى هدوء شديد، وأبدى البعض اعتراضات، وطلبت فرنسا ساعات للتصويت بدون معنى، وعادة عندما يتحدث مندوب إسرائيل وعندما يكون هناك كلام ونقاش جاد، ممكن ينسحب مندوب إسرائيل، ويكون أول من يحاول تعطيل الجلسة، إلى آخره، وإذا كان هناك كلام جاد عن تقرير جولدستون لوجدنا مندوبى إسرائيل وأمريكا وفرنسا وإنجلترا، وغيرهم الكثير، انسحبوا من الجلسة، ولكن الجلسة مرت وكأننا أمام إخراج مسرحى مقصود، أُخرج بقصد تغطية أزمة لا يستطيع أحد أن يفصل فيها، دونما تواطؤ.
مع العلم أن حقائق أى موقف تفرض نفسها على أطراف، هناك أطراف قوية وأطراف ضعيفة، وأخرى معنية وأخرى غير معنية، وفى أى مؤتمر يجب أن نحدد أين القوة، فإذا استطعت أن تحدد مواقع القوى ومواقع الضعف تستطيع تصور سير أى جلسة، ولم يُفرض على أحد أى شىء، لكن القوة تخلق صياغاتها والضعف يخلق صياغاته، فالنصوص لا تصوغها أقلام، النصوص تصوغها حقائق قوة، وبدون حقائق القوة تظل النصوص مائعة، وأعتقد أن هذه الميوعة هى ما ظهر عندنا، هذا النص هو ما كانت تطلبه أمريكا وإسرائيل، فقد كانا يطلبان التأجيل حتى مارس، وقد تم التأجيل إلى مارس، ومع ذلك فإن إسرائيل غير راضية عن التقرير بعد خلع أسنانه، وهذا يجسد حالة إجرامية واضحة.

■ تبقى إذن الأزمة كما هى؟
- أزمة الشرق الأوسط باختصار، وهذا ما قاله جولدستون، هى امتناع العقاب عن أطراف معينة.. هناك طرف تصعب معاقبته.. وهناك طرف لا يحاسب.

■ وهل خسرنا الرأى العالمى بعد التقرير الأخير وما دار حوله؟
- خسرنا الكثير والكثير جداً.. فالمنطق يقول إنه مادام هناك طرف غير قادر على رفع الحرج عمن أنصفوه.. فالمذنب لن يقول «أنا مذنب تعالى خدنى يا سعادة القاضى».. أtقصد القول: كيف يمكن أن يشعر قاض أنصفك فى قضية كتلك بينما أنت تتخلى عن حكمه.. هل معقول أن تتحمل الظلم والظالمين إلى ما لا نهاية، وفى الوقت نفسه أنت غير قادر على تحمل العدل والعادلين.. «يا أخى هناك من ينصفك لماذا تصده»؟.

■ كيف تُقيِّم مسؤولية محمود عباس «أبومازن» فى تلك القضية؟
- عندما نتحدث عن فلسطين، لابد أن نوضح أن لدينا طرفاً سجيناً فى غزة، وطرفاً أسيراً فى رام الله، وما بين الأسير والسجين كيف تكون الإرادة، وكيف يمكن لهذه الإرادة أن تعبر عن نفسها.. والإجابة أنه فى مجتمع تحكمه القوة لا يمكن للأسير والسجين أن يعبرا عن شىء.. أكثر ما يمكن القيام به هو المقاومة.

■ ما الدور الناقص فى القضية الفلسطينية؟
- أصحاب الدور الحقيقى هم الدول العربية، وهى غائبة.. الدول العربية أخرجت نفسها.. كان هذا التقرير فرصة لأن تلتقى الدول العربية وتلتف حوله لتحريك القضية، وإنهاء النزاع.. أنا لا أطلب الحرب لأننى أدرك ظروفنا جيداً، بينما إسرائيل تتكلم بغرور غير عادى، ومن يسمع القادة والعسكريين فيها سيدرك ذلك، وقد سمعت تصريحاً لقائد الأركان علق عليه صحفى إسرائيلى بقوله «الرجل يتكلم كما لو كان بمقدورنا أن نأكل لبنان على الإفطار وغزة على الغداء وإيران هى وليمة اليوم التالى».. وطبعاً إسرائيل لا تستطيع ذلك، صحيح أنها تريد ضرب إيران لكنها لا تستطيع ضربها بمفردها.

■ تقصد أنه لابد من وجود أمريكا؟
- الوضع الإيرانى أكثر ذكاء من الوضع العراقى، ولا مجال للمفاجأة هنا.. والواضح أنهم لا يسعون إلى مشروع سلاح نووى، وتقرير البرادعى يتحدث عن أن نسبة تخصيب اليورانيوم متدنية جداً ولا تتجاوز ١٠%، بينما تحتاج إلى ٥ أضعاف هذه النسبة لصناعة أضعف قنبلة، وما تخشاه إسرائيل من إيران، هو امتلاكها المعرفة.. فالخبراء الألمان الذين كانوا معنا فى الماضى، تم إرهابهم حتى لا ينقلوا تلك المعرفة.

■ كيف تقرأ السياسة الإسرائيلية تجاه العرب؟
- تحضرنى هنا النصائح التى قالها نتنياهو لأوباما خلال لقائهما، فقد قال له: «سيدى الرئيس أنت مخطئ فى فهمك للعرب، أنت تتصور عنهم أشياء تختلف عن طبيعتهم.. فالعربى يخاف ولابد أن ترعبه، لابد أن تخيفه، لكن هناك بعض العقل فى رأسه.. والسعى وراء محبة العرب تضييع وقت، وأخشى أنك مقبل على الوهم الذى عاشه بعض الرؤساء فى الماضى».
وهناك نكتة مصرية قديمة عن اثنين من اليهود فى حارة اليهود، الأول اسمه كوهين وكان عاجزاً عن النوم بسبب عجزه عن سداد دين لـ«ليفى»، وتطالبه زوجته بالنوم فيرد عليها «مش قادر أنام بكره أعمل إيه مع ليفى»، وعندما عجزت عن إقناعه فتحت الشباك ونادت على ليفى بصوت عال وقالت له «يا ليفى.. كوهين ليس عنده ما يدفعه لك غداً»، وأغلقت الشباك قائلة لزوجها «يللا نام يا كوهين.. ليفى هو الذى سوف يسهر الآن».
هذا بالضبط ما يفعله ليبرمان حالياً متصوراً أننا سنشعر بالقلق، وهو ما لم يحدث، فنحن لم نشعر بالقلق لأننا غير قادرين على مواجهة الحقيقة، وطوال الوقت نتحدث عن عملية السلام وطريق السلام، لكن إلى متى؟ هل سنستمر هكذا إلى ما لا نهاية.. هذا يعنى أننا لا نمتلك خياراً آخر، وما نفعله هو تفاوض من أجل التفاوض.. وفقط.

■ وبالطبع فإن هذا الخيار الآخر مهم لإتمام عملية السلام؟
- لا سلام دون قوة.. ونحن لدينا قوة الموقع وقوة البشر، لكننا نضيعهما، لدينا ما بين ٣٥٠ و٤٠٠ مليون عربى فى مواجهة ٥ ملايين، لكن ما يحدث أننا خائفون طوال الوقت.. لا أتحدث هنا عن القضاء على إسرائيل، وكل ما أطالب به ألا نكون مرعوبين كل هذا الرعب.

■ من هم الخائفون.. الأنظمة أم الشعوب؟
- الشعوب.. الشعوب كلها تقريباً أسلمت أمرها لله وأُدخلت فى أوهام وراء أوهام وراء أوهام إلى ما لا نهاية.. وأنا أعيش هذا الأمر منذ ١٩٧٣، مفاوضات وراء مفاوضات.

■ والمفاوضات دائماً تبدأ وتنتهى من نفس النقطة؟
- المفروض أن أى مفاوضات تسعى إلى حد أدنى ومقبول من مطالبى.. وإذا لم تحقق المستهدف فلابد أن تكون لدى وسائل أخرى، وإذا لم تكن لدينا تلك الوسائل الأخرى سنظل نتحدث طوال عمرنا.

■ وكما قلت.. فإننا لا نمتلك تلك الوسائل الأخرى؟
- أشك جداً.. قد تكون هناك وسائل لكنها متفرقة، فالجغرافيا من أسباب القوة، وكلها فى صالحنا، والتاريخ كله فى صالحنا، والموقع والصداقات الدولية.. لكن المشكلة أننا أضعنا كل هذا.. ما الذى فعلناه مثلاً مع الهند والصين وأفريقيا كلها وأمريكا اللاتينية.. المشكلة أننا توهمنا أن الحل عند أمريكا وحدها، فمشينا وراء هذا الوهم حتى وقعت أحداث ١١ سبتمبر، وقالت لنا أمريكا ببساطة: «لم يعد لدينا ما نعطيه لكم»

■ مصطلح «أمريكا هى الحل».. تلك وديعة السادات؟
- ليس مهماً هنا وديعة من.. ولكى نكون عادلين، فإن السادات لم يكن الوحيد الذى يردد هذه المقولة.. وأذكر أننى عندما قلت «ليس هناك أمل فى تحقيق هذا النوع من السلام» خرجت «أخبار اليوم»، مثلاً، بعنوان على صدر صفحتها الأولى يقول «واحد ضد مصر»، كنا قلة نحن الذين أكدنا أن هذا السلام لا يصلح.

■ كثيرون يتحدثون عن تجربة غاندى السلمية فى الهند ضد الاحتلال الإنجليزى.. ما تعليقك؟
- الوضع مختلف تماماً... وإسرائيل مختلفة تماماً، غاندى كان يتكلم عن استقلال الهند وخلفه ٤٠٠ مليون، بينما كان جيش الاحتلال الإنجليزى لا يزيد على ٤٠ ألفاً، «يعنى ياكلوهم فى يوم واحد».. أما القضية الفلسطينية فهى باختصار لـ«وطن انتزع من أصحابه»، وطن قسمت خريطته بالسلاح، ولا تجوز المقارنة أبداً.. لن تنفع سياسة غاندى.

■ إذن ما هى السياسة المناسبة؟
- هى السياسة التى تعتمد على قوة الموارد الإنسانية والطبيعية والجغرافية، تماماً مثلما فعلنا فى أكتوبر، فقد دخلنا الحرب ومعنا تحالف مهم جداً، وجاءنا وهم السلام فى وسط المعركة.. وسبق أن قلت إن السلاح تخلى عن السياسة فى ٦٧، وفى ٧٣ تخلت السياسة عن السلاح، فالمقاتل العربى على الجبهتين المصرية والسورية حقق معجزة بديعة بكل المعايير، والعالم كله يشهد بها، لكن السياسة تدخلت فإذا بنهاية الحرب تختلف عن بدايتها.. ومن الأمور التى تناقشت فيها مع ديفيد أوين وزير الخارجية البريطانى الأسبق قوله للشباب »أنتم خسرتم فى أكتوبر»، فأنا أخالفه فى الرأي تماماً.

■لماذا؟
- لأن الوضع فى النهاية كان سيئاً، وكان يجب أن يقال له- لم أكن موجوداً للأسف فى هذه الندوة- أنه لابد من الفصل بين الأداء السياسى والإنجاز العسكرى العربى.. ففى رأيى أن الأداء العسكرى كان رائعاً ولم يكن الأداء السياسى قادراً على خدمة هذا الأداء الرائع، وبالنسبة لديفيد اوين فأنا اختلفت معه وهو تراجع عن كلامه فى اليوم التالى.

■ على عكس ما حدث فى ١٩٦٧؟
- تماماً.. السياسة وقفت بقوة، لكن السلاح تخلى عنها، عندما صدر قرار الانسحاب لكل القوات فى ليلة واحدة.. الخلاصة أننا فى ٧٣ ابتدأنا كما يجب أن تكون البدايات.. وانتهينا فى غير الموقع الذى كنا فيه أو عكسه تماماً.

■ وما السبب فى ذلك؟
- السياسة.. فكرنا فى طلب السلام فى غير توقيته.. فقد أثبتنا بقوانا أننا قادرون سياسياً وعسكرياً.. وقدمنا أداء عسكرياً جيداً فى بداية الحرب، ولو كان هناك أداء سياسى مواز ما كنا تعرضنا لهذا الموقف.. اتخذنا إجراءات لا تليق بالمنتصرين، بينما تصرفت إسرائيل سياسياً كمنتصرة.

■ كيف ترى الأحداث القادمة بعد تقرير جولدستون المعدل؟
- التقرير الأصلى كانت له مخالب وأنياب، وارتضينا نحن بخلع أنيابه ومخالبه، فتسلمناه مؤدباً وانتهى الأمر، أقصد بالأنياب مجلس الأمن، أما المخالب فهى المحكمة الجنائية الدولية، وحتى لو أوقف التقرير بالفيتو الأمريكى، كنا سنكون الفائزين، فهناك فارق بين أن نتوقف لأننا يجب أن نتوقف، أو لأننا عجزنا، أو لأن أمريكا اعترضت.

■ هل آن أوان إلغاء شعار «أمريكا هى الحل»؟

- عندما تتابع تاريخ القضية ستجد أن مواقفنا لم تتغير، فكان نيكسون هو الحل وكيسنجر وفورد هما الحل، وكارتر هو الحل وريجان هو الحل وبوش الأب هو الحل وبوش الابن هو الحل، بالطبع لا نستطيع استرجاع التاريخ لتصحيحه، ما حصل مع الأسف حصل، لكن هناك فارقاً، أن أقبل ما جرى وأنام عليه للأبد، أو أن تجىء لحظة يقظة فأحاول أن أغير فى حدود استطاعتى..

■ ما تصوراتك للخروج من منطقة الضعف التى نعيش فيها؟

- أول شىء هو الاعتراف أن ما فات كان فشلاً، وهذا ليس عيباً، فأمريكا سيدة الدنيا عندما جاءتها الأزمة المالية اعترفت أن ما هى فيه لا يصلح لعلاج الأمر، وفى ألمانيا «تعرفت ميركل بدأب النمل».. أقصد أننا لابد أن نحدد ما نريد، ونتأكد من أن الطريق الذى نسير فيه لن يجدى نفعاً، وعلينا أن نحسب خسائرنا ومواردنا..
أليس هذا ما حدث فى الغرب أثناء الأزمة المالية، فقد اعترفوا أنهم يواجهون إفلاساً ثم أحصوا مواردهم ومخزونهم قبل أن يضخوا فى السوق ١٠ تريليونات دولار، وبدأوا إجراءات تصحيحية للأوضاع القديمة.. أى أنهم استفادوا من الأزمة فى وضع نظم جديدة.

■ وبالنسبة لنا.. ماذا بعد الخطوة الاعترافية بحقيقة أوضاعنا؟

- أن نتعامل حسب مواردنا وإمكاناتنا وإرادتنا.. الشجاعة هى فهم الحقيقة، والفارق كبير جداً بين الحقيقة والواقع.. ولو أن الأمريكان سلموا بالواقع لأفلسوا.. أحياناً ننسى أنه لا يوجد شىء اسمه الحاضر، إنه لحظة وهمية افتراضية غير خاضعة للقياس، الحاضر متغير، مثل خطوط الطول والعرض، ومن يرد الأمر الواقع فإنه يريد تجميد لحظة مؤقتة وهمية وافتراضية إلى الأبد.. أما الحقيقة فهى ما لديك بالفعل.

■ وما تصوراتك للقضية الفلسطينية فى ظل ما يسمى «مبادرة أوباما»؟

- لا يوجد شىء اسمه مبادرة أوباما.. نحن أمام رجل جاء فى فترة أزمة أمريكية.. أزمة أمريكا هى التى جعلتهم يختارون أوباما.. وسبق أن قلت إن مجىء هذا الرجل دليل أزمة، فهو يفتقر إلى تجربة رجل الدولة، والكونجرس طرف رئيسى فى رسم السياسات، والرئيس سلطة تنفيذية للسياسات التى يقرها الكونجرس، ولديه سلطة لكنه لا يستطيع أن يبتدع سياسات إلا بموافقة الكونجرس.

■ ألا يملك تنفيذ الرؤية التى طرحها من قبل؟

- أوباما أشاع جواً من التفاؤل، فيما نحن نريد التعلق بقشة، واكتشفنا أنها فى النهاية مجرد قشة، أوباما له شخصية هائلة، لكن أمريكا ببساطة شديدة ليست فى وضع يسمح لها بأن تقود العالم.. هل تعرف أن أوباما حتى الشهر الماضى ألقى ٢٨٣ خطبة.. إنه يمتلك موهبة الكلام والإقناع، ولا يتوقف عن الكلام.
عندما حدثت مشكلة عنصرية بين أستاذ جامعى فى أمريكا وشرطى، دعا أوباما الاثنين على «بيرة» فى البيت الأبيض هذا ليس حلا، وإنما علاقات عامة، وبالتالى فإن الخطب لا تحل المشاكل وإلا كان الشعراء والأدباء رؤساء دول هائلين.
■ لذلك يقولون له الآن «إنه وقت العمل يا سيادة الرئيس»؟

- نعم.. فأمريكا عندها مشكلة تتعلق بضرورة إعادة تشكيل نفسها على حقائق جديدة.. قوة عظمى تصورت أنها تستطيع الانفراد بالعالم كله، ثم تبين أن للقوة حدوداً، شأنها شأن أى إمبراطورية أسرفت واكتشفت أن هناك عجزاً، فهى تنفق أكثر مما تنتج.. كانت أمريكا تحتاج رئيساً مثل روزفلت.. رئيساً قوياً واثقاً من نفسه.

■ قلت: إن أمريكا غير مؤهلة حالياً لقيادة العالم.. هل يعنى ذلك أن الرهان عليها أصبح خاسراً؟

أمريكا أمام محاولة لإعادة التكيف فى العالم، وهنا كان يجب علينا أن نخدم أنفسنا فى هذا التوقيت، الذى يحدث فيه انتقال فى القوة، هناك دولة تصعد اسمها الصين، وأوروبا الموحدة، وألمانيا، ودول أفريقية تنمو وتكبر، وفى هذه اللحظة ارتكبنا جريمة أخرى ولم نسأل أنفسنا، تحت تصور أننا أصدقاء أمريكا، صنعنا الجهاد فى أفغانستان، وجمعنا الأموال والتبرعات والمتطوعين للجهاد فى أفغانستان، ووقفنا مع أمريكا ضد الاتحاد السوفيتى، وانسحب من أفغانستان، لكن الأولاد الذين أرسلناهم إلى هناك للحرب ومنحناهم سلاحاً ارتدوا علينا، وأصبحت أفغانستان فى حرب أهلية وتسبب ذلك فى عدم استقرار باكستان، وهى أكبر دولة إسلامية فى آسيا، ولديها قدرات نووية، وجعلت منها قاعدة عمل فى أفغانستان وأنهكتها، وكنا نحارب معارك الآخرين فى أفغانستان «لماذا؟»، ثم أتلفت النظم العربية الموجودة حالياً أجيالاً من الشباب، أرسلتهم هناك بعيداً وعلمتهم أنواعا من التطرف بحيث لا يستطيعون العيش بدون السلاح، من أين أتينا بالنقاب مثلا؟، النقاب كان مفروضا على زوجات النبى، لكن أمراء الجهاد فى بيشاور أخذوا زوجاتهم، ولكى لا يعرف أحد حقيقة أحد ألبسوا زوجاتهم النقاب، وعاد بعضهم بعد ذلك إلى بلادهم لينتشر النقاب «ما هذا؟».

■ يعنى أنت صنعت بيدك كل هذا؟
صنعنا ذلك بأيدينا ولحساب الآخرين، طاعة للأمريكيين لينقذوننا ونكاية فى الروس لا أعرف لماذا؟، ما فعلناه مع جولدستون هو نفسه ما فعلناه مع الاتحاد السوفيتى، منحنا سلاحا لنحارب به ونحن فى وسط المعركة فعلنا الوصف الذى قاله «كيسنجر» أقلعنا مع الروس ونزلنا مع الأمريكيين، وكان يجب طوال الوقت أن نظل مع أنفسنا فقط، وأن تبقى فى أيدينا نحن كل أوراق الحل.

- العرب والفلسطينيون «يهنئون أنفسهم» ويتحدثون عن انتصار.. ورضوا بـ«الترحيب» بعد «تنظيف» التوصيات فى «غسالة كهربائية»
- قبلنا ألا يرد فى القرار أى ذكر للمحكمة الجنائية لأن الضعف أخطر من الجهل والتعمد.. والنصوص لا تصوغها الأقلام وإنما القوة
- جولدستون لخص أزمة الشرق الأوسط فى امتناع العقاب عن أطراف معينة.. هناك طرف تصعب معاقبته وطرف لا يحاسب
- خروجنا من منطقة الضعف تلك مرهون باعترافنا بأن مافات كان فشلاً.. وأن نتحلى بشجاعة فى فهم الحقيقة واستغلال مواردنا وامكاناتنا وإرادتنا
- أى مفاوضات تسعى إلى حد أدنى ومقبول من مطالب.. وإذا لم تحقق المستهدف فلابد أن تكون لدينا وسائل أخرى
- الشعوب كلها تقريباً أسلمت أمرها لله.. ودخلت فى أوهام وراء أوهام منذ ٧٣ .. ومفاوضات وراء مفاوضات
- لا أسمى ذلك جهلاً أو تعمداً بل أسميه ضعفاً والضعف أخطر من الجهل والتعمد.. كيف تكون الإرادة فى مجتمع تحكمه القوة؟
- نتنياهو قال لأوباما: أنت مخطئ فى فهم العربى.. هو يخاف ولابد أن ترعبه.. والسعى وراء محبته تضييع للوقت
- لا يوجد شىء اسمه «مبادرة أوباما».. فهو يفتقر تجربة رجل الدولة ولا يستطيع ابتداع سياسات إلا بموافقة الكونجرس
- أثبتنا فى حرب أكتوبر أننا قادرون سياسياً وعسكرياً.. ثم فكرنا فى السلام فى غير توقيته فاتخذنا إجراءات لا تليق بالمنتصرين بينما تصرفت إسرائيل سياسياً كمنتصرة
- أسوأ شىء أن تصل إلى مرحلة غير قابلة للحركة ولا الحياة ولا الفعل.. وهذا هو حالنا معلقون بين الاعتراف والإنكار

 

 الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى حوار حول المستقبل -فيديو

نقلا عن جريدة المصرى اليوم بغرض تعميم الفائدة

06/11/2014

مصرنا ©

 

.....................................................................................

 


 

 
 



مطبوعة تصدر
 عن المركز الأمريكى
 للنشر الالكترونى

 رئيس التحرير : غريب المنسى

مدير التحرير : مسعد غنيم

 

الأعمدة الثابته

 

 
      صفحة الحوادث    
  من الشرق والغرب 
مختارات المراقب العام

 

موضوعات مهمة  جدا


اعرف بلدك
الصراع الطائفى فى مصر
  نصوص معاهدة السلام  

 

منوعات


رؤساء مصر
من نحن
حقوق النشر
 هيئة التحرير
خريطة الموقع


الصفحة الرئيسية